المؤتمر القومي السادس لحزب البعث 1963 وتجربة اليسار الطفولي للحزب

د. عدنان عويّد

الحلقة الثالثة:

نظراً لغياب البعدين الطبقي والفكري في صفوف حزب البعث  العربي الاشتراكي, بدأت تظهر داخل الحزب عدّة تيارات ذات توجهات طبقيّة وفكريّة متعددة, كان  أبرزها, تيار “مشيل عفلق” اليمني فكريّاً, وتيار “صلاح البيطار” الذي لم ينشق فعليّاً عن عفلق ولكن أصحاب هذا التيار كانوا يقولون إن حزب البعث (حزباً سياسيّا وليس تكية دينيّة كما يريده عفلق). وكان هناك تيار “أكرم الحوراني”, وتيار “نور الدين الأتاسي” والزعيّن وصلاح جديد اليساري وغيرهم.. إلخ. وهذا التعدد في حقيقة أمره, كان يعبر عن الخلل الواضح كما أشرنا في بنيتي الحزب التنظيميّة والفكريّة معاً, اللتين ضمتا في مضمارهما من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار, بالرغم من أن الصراع داخلهما بعد فشل الوحدة بين سورية ومصر, أخذ لبوساً سياسيًّاً وسلطوياً ما بين مؤيد للوحدة (القوميون), ومعادي لها (القطريون), أو صراعاً بين التيار المدني والتيار العسكري داخل الحزب, أي كان هذا الصراع في الحقيقة صراع مصالح, لعب فيه البعد الطبقي, مثلما لعبت فيه شهوة التفرد بالسلطة الدور نفسه.

في ذروة هذا الصراع عُقد المؤتمر القومي السادس للحزب في عام 1963, هذا المؤتمر الذي خرج في نهايته بإصدار التقرير العقائدي للحزب, أو ما سمي بـ (المنطلقات النظريّة) فيما بعد, التي شكلت مع دستور الحزب الذي أقره المؤتمر القومي الأول عام 1947 المرجعين الفكريين الأساسيين للحزب. ومن خلال تحليلنا لأهم الخطوط الاستراتيجيّة الفكريّة لهذا الحزب التي أقرتها المنطلقات النظريّة للحزب, ممثلة في منهجه الفكري, وأهدافه وشعاره أو رسالته الخالدة, وبنيته الطبقيّة, يتبين لنا التالي:

لقد قام بكتابة مسودة هذا الدليل النظري للحزب, كما يذكر “هاني الفكيكي” في كتاب (أوكار الهزيمة), الكاتب والمفكر السوري اليساري “ياسين الحافظ”, الذي كان في فكره اليساري أقرب إلى الناصرية منه إلى اللينينيّة, وقدم هذا الدليل إلى المؤتمر “جبران مجدلاني”, حيث جرت على هذا الدليل مناقشات حادّة بين تيار اليمين الذي يقوده مشيل عفلق, وتيار اليسار المتأثر بالماركسيّة, ومن حالات النقاشات الحادة هذه حول المنطلقات النظريّة بين الفريقين داخل المؤتمر على سيل المثال, النقاش الذي دار حول (الاشتراكيّة), هل هي اشتراكيّة عربيّة أم اشتراكيّة علميّة؟, فبينما كان عفلق والقوى اليمينيّة في المؤتمر, يصرون على صيغة ومفهوم الاشتراكيّة العربيّة, كان الجناح اليساري يصر على صيغة الاشتراكيّة العلميّة, حتى توصل الجميع إلى رأي مشترك للخلاص من هذا المأزق بعد أن وافق عفلق وتياره على صيغة (الطريق العربي إلى الاشتراكيّة), وهي صيغة ضبابيّة في موقفها وحسمها الطبقي والفكري, وظلت ضبابيتها قائمة حتى حل الحزب نفسه مؤخراً, بالرغم من أن المنطلقات النظريّة قد حددت القوى الاجتماعيّة الطليعيّة في حزب البعث وهم: العمال والفلاحون وصغار الكسبة والمثقفون الثوريون وعناصر الجيش والبرجوازية الصغيرة.

على العموم , لقد أقر الجميع الصيغة النهاية لما سمي (بعض المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي), داخل المؤتمر, مع إرجاء إقرار مقدمتها المنهجيّة  القائمة على مبدئي (العلميّة والثوريّة) حتى المؤتمر القومي السابع عام 1964, ومع ذلك استطاعت المنطلقات مع مقدمتها, أن تتجاوز في طرحها معظم الأفكار الضبابيّة والعاطفيّة المتعلقة بمفهوم أهداف الحزب (الوحدة والحريّة والاشتراكيّة) كما شرحها وبين دلالاتها مشيل عفلق, حيث جاءت رؤية المنطلقات النظريّة متكئة هنا على موقف منهجي علمي اتخذ من العلميّة والثوريّة أسلوباً أو منهجاً لتطبيق هذه الأهداف, كما حُدد البعد الطبقي بالقوى التي أشرنا إليها أعلاه ودورها في تحقيق هذه الأهداف. إضافة إلى كون المنطلقات النظريّة استطاعت أن تحدد مضامين الثوريّة والعلميّة بالنسبة للمشروع الفكري للحزب, مثل معنى الاستسلاميّة العلميّة, والطليعة الثوريّة, والنخبة, والإصلاح, والديمقراطيّة بشقيها الليبرالي والشعبي, والجيش العقائدي, كما قامت بتحييد الدين, من خلال عدم التطرق له في المنطلقات النظريّة كلها, هذا وبينت المنطلقات الموقف من المرأة وضرورة العمل على تحريرها من العادات والتقاليد الباليّة من جهة, وتحريرها من المفهوم البرجوازي للحريّة من جهة ثانية, وغير ذلك. بيد أن التطبيق العملي لهذه المنطلقات وخاصة بعد إصدار قوانين التأميم والاصلاح الزراعي, أعادت الخلافات إلى الواجهة وبدأ الصراع بين تيار عفلق اليميني, وبين التيار اليساري داخل الحزب, الأمر الذي دفع قادة هذا التيار اليساري إلى قيام حركة 23 شباط / 1966, التي أقصت عفلق وتياره من الحزب داخل سورية.

 

حركة 23/ شباط 1966:

مع وصول ما عرف بتيار (صلاح جديد) اليساري إلى السلطة, بدأ الحزب يعمل بكل جد على تطبيق ما جاء في المنطلقات النظريّة من أفكار على مستوى القطر, فاتضح هنا خط الحزب اليساري بكل وضوح وعلى كافة المستويات.. التأميم, ومحاربة القوى الرجعة ممثلة بالبرجوازي وبقايا الإقطاع, والعشيرة والقبيلة والطائفة ورجال الدين, مع التركيز على الجماهير الكادحة والقيم الأخلاقيّة الثوريّة لدى المنتسبين للحزب. في الوقت الذي اتضح فيه الموقف المتعاطف من الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية, ولا نبالغ القول بأن قيادة الحزب في تلك الفترة كانت أقرب إلى اللينينيّة في الفهم الاشتراكي وتطبيقاته, بل حتى في سير عمل الحزب وبنيته الفكريّة والتنظيميّة. بيد أن المشكلة هنا هي, أن الحزب الذي طالب بضرورة قيادة الدولة والمجتمع, واعتبار أعضائه هم وحدهم القوى الثوريّة القادرة على قيادة هذه الأمّة وتحقيق أهداف الحزب, قد فرض على الآخرين وصايته وحاكميته (البعثيّة). بل تحول حزب البعث من حيث الفكر والممارسة إلى حزب أصولي معاصر, لا يختلف من حيث المبدأ عن الأصوليّة السلفيّة الإسلاميّة التي تحارب المختلف, مع الفارق في الموقف الفكري طبعاً بين الأصوليّة الإسلاميّة التي تطالب بتطبيق الحاكمية (الإسلاميّة) كما طرحتها القوى الإسلاميّة السياسيّة ومنها “الأخوان المسلمون”, الذين اعتبروا أن الدين الإسلامي بنصوصه المقدسة (القرآن والثابت من الحديث وأقوال الصحابة) هي المرجع لحاكميتهم, وأن (الجيل القرآني) الذي أعدوه كطليعة هو من سيعمل على تطبيق هذه النصوص في الواقع. بينما حزب البعث اعتبر المنطلقات النظريّة هي النصوص المقدسة التي على الجميع احترامها والخضوع لمفاهيمها, ومنهم البعثيون وخاصة من يوالي الجناح الحاكم, هم الطليعة أو الحوامل الاجتماعيّة القادرة على تطبيق هذه المفاهيم. وكل خروج عمها هو انحراف داخل الحزب.

المشكلة الأساس التي عانت منها قيادة الحزب في هذه المرحة, هي تلك العقليّة المتخلفة لدى الكثير من البعثيين الذين لم يستطيعوا فهم البنية الفكريّة للمنطلقات النظريّة وبقي فهمها مقتصراً على النخبة المثقفة, رغم أن القيادة قد أصدرت الكثير من الكراسات الحزبيّة التي تهدف إلى شرح جوهر المنطلقات النظريّة ومقولاتها الفلسفيّة والفكريّة. وهذا ما جعل المنطلقات في وادي وطريقة تفكير البعثيين في واد. يضاف إلى ذلك مسألة أخرى على درجة عاليّة من الأهميّة وهي: إن المنطلقات النظريّة التي تبنت المنهج العلمي في التحليل أي (الماديّة الجدليّة والتاريخيّة), أصدرت القيادة السياسية للحزب كراسا بعنوان (العلميّة والثوريّة) بينت فيه قوانين ومقولات الجدل المادي, إلا أن مسألة الفهم عند معظم البعثيين ظلت غائبة لسببين, الأول إن البعثيين لا يقرؤون, والثاني خوفهم ضمنيّاً من الماركسيّة التي لم يفرقوا بينها كمنهج في التفكير, وبين الشيوعية كنظام حياة, وبالتالي هي ضد الدين, وهنا تكمن المشكلة.

وأخيراً نقول في هذا الاتجاه: إن القيادة التي أقرت هذه المطلقات غالباً ما وقعت في خانة (اليسار الطفولي) عند الممارسة, فهي لم تستطع التعامل مع الدين بعقلانيّة, وقامت بإلغاء المساجد في المدارس والمعاهد والجامعات من جهة, كما أنها لم تفهم الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لطبيعة المجتمع السوري وتكويناته القائمة على مرجعيات تقليديّة وخاصة في تعاملها الفظ مع شيوخ العشائر والقبائل آنذاك. أي تيار اليسار هنا لم يستطع أن يحقق وعياً مطابقاً للواقع المعيوش, لذلك ظل المشروع اليساري يعيش في حالات من الضبابيّة, ووقع في فخ لاستسلاميّه العلميّة التي حذرت منها المنطلقات النظرية ذاتها. وهذا ما أدى إلى ابتعاد البعثيين المشبعين بالفكر الديني الجبري الوثوقي عنها أولاً, ثم ابتعاد الجماهير والقوى السياسية ورجال الدين وشيوخ العشائر والقبائل والطوائف عنها ثانياً, فكان سقوط حركة 23/شباط عام 1970.

يتبع.

كاتب وباحث من سوريّة.

 

السمات الفكريّة لحزب البعث في منظور مشيل عفلق

حزب البعث ما بين العفلقيّة والسلفيّة.

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً