توقّع كثيرون هدنة في قطاع غزّة بمناسبة عيد الفطر، لكن إسرائيل هي إسرائيل. لا تغيّر عاداتها وتقاليدها والتزاماتها وطريقتها في معايدة الفلسطينيين بالدم والقتل ومزيد من الاحتلال، وهذا ما فعلته هذه المرّة في القدس والضفة الغربية وغزّة.
في القدس، صادقت الحكومة الإسرائيلية على فتح نفق بين بلدتي العيزرية والزعيم، تمهيداً لضمّ مستوطنة معاليه أدوميم للمدينة المقدّسة. وفي الضفة، صادق الكنيست على فصل 13 مستوطنة عن مستوطنات أخرى للاعتراف بها مستوطناتٍ مستقلّةِ، وذلك على “طريق الثورة في شرعنة وتطبيع المستوطنات في الضفة، والبدء بفرض السيادة عليها بدلاً من الاختباء والاعتذار، ورفع العلم الإسرائيلي والشروع بالبناء والاستيطان، وهذه خطوات مهمّة”، كما قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بما يضاف إلى ما يجري في جنين وغيرها من مدنٍ لتهجير الفلسطينيين والاستيلاء على الطريق نفسه.
وكتبت صحيفة هآرتس: “بينما يجري انتظار مفاوضات مشكوك في نتيجتها، تُجهّز الأرضية لعملية واسعة لاحتلال قطاع غزّة بالكامل”. وهذا ما بُدئ بتنفيذه. عمليات إبادة وتدمير مبان سكنية، ومجاعة حقيقية تُفرض على الغزّيين لدفعهم إلى “الهجرة الطوعية”، كما يدّعون. عملياً، يضعون الفلسطينيين أمام خيارَين: الإبادة والقتل والتعذيب، و”خيار” الهجرة ويسمّونها “طوعية” (!)، ومن إبداعات العقل الإسرائيلي في هذا المجال ما أعلنه، أخيراً، رئيس أركان جيش الاحتلال الجديد إيال زامير: “أعددنا خطّةً جديدةً، إرساء سفن في ساحل غزّة، ونشجّع سكّانها على الرحيل على متنها تحت غطاء القصف”. يعترفون أمام العالم بالجريمة التي يرتكبونها. هم يتحسّبون لاحتمال عدم فتح المعابر البرّية فيُحضِّرون التهجير من طريق البحر. الهدف ثابت، اقتلاع الفلسطينيين أينما وجدوا، من القدس والضفة وغزّة، وليس في الأمر جديد. منذ مدّة وهم يُعلنون مخطّطهم، وفي الأيّام الماضية، أكّدوا استمرار اتصالاتهم مع عدة دول لاستقبال الفلسطينيين في مقابل إغراءات ماليّة كبيرة. وما زال العرب يتحدّثون عن خطط انتقالية أو مرحلية، وإسرائيل لا تقيم اعتباراً لهم، وتدعمها في ذلك أميركا.
والثابت في هذا المشروع، أيضاً، أن الأموال لبناء “ريفييرا الشرق الأوسط “، ولإغراء الدول التي توافق على استقبال المُقتلَعين من أرضهم سيدفعها العرب، والمسؤولون الأميركيون لا يخفون ذلك، بل يطالبون العرب بأموال إضافية مع مفعول رجعي ثمناً لـ”مساعدتهم” في “حمايتهم”، في مراحل كثيرة، فقد خرج وزير التجارة الأميركي أخيراً ليطالب الكويت بـ”دفع فاتورة بقيمة مائة مليار دولار دفعتها أميركا لتحرير الكويت”، متّهماً إيّاها بأنها “تفرض رسوماً جمركية مرتفعة على البضائع الأميركية”، ومشيراً إلى أن “أميركا بذلت جهوداً كبيرة لإطفاء آبار النفط التي اشتعلت أيّام الغزو العراقي”.
ردّت الكويت بالأرقام والوقائع. “كلفة التحرير 61 مليار باعتراف أميركا. دفعت السعودية والكويت 32 ملياراً، واليابان عشرة مليارات والإمارات أربعة مليارات، وألمانيا ستة مليارات + مساهمات أخرى، أمّا الرسوم فهي “لا تتجاوز 5%، ومقرّرة في داخل مجلس التعاون الخليجي”، وإطفاء آبار النفط ساهمت فيه شركات أميركية وسوفياتية، وفرنسا وبريطانيا والصين والكويت وغيرها. ومع ذلك، يبقى الموقف الأميركي هو هو. وعلى أساس تلك القاعدة، وما يعلنه ترامب دائماً أن لا حماية لأيّ دولة من دون أن تدفع التكاليف، وهو يطبّق ذلك على دول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وأخيراًً على أوكرانيا، ويطالبها بأرقام خيالية، فهو لن “يحمي” العرب من القاعدة ذاتها. ويقول للجميع: خلّصناكم من صدّام في العراق. خلّصناكم منه بعد غزو الكويت. خلّصناكم من إيران والأسد وحزب الله في سورية. خلّصناكم من حزب الله في لبنان. خلّصناكم من “حماس” في فلسطين، ومصرّون على استكمال خطواتنا هناك. نعمل على تخليصكم من الحوثيين، والفاتورة هنا كبيرة جدّاً. نعمل على تخليصكم من إيران وأذرعها وتهديدها ومن مشروعها النووي، وهنا الفاتورة الخيالية. وبالتالي، عليكم أن تدفعوا ما عليكم. والحساب مفتوح. إذ قد تحدث تطوّرات خطيرة في المنطقة وتفرض مزيداً من “التدخّلات” لـ”المساعدة” في تحقيق الأهداف المذكورة، والحدّ من الحرائق، وإطفاء ما سيشتعل منها.
هنا نرى دولاً تتسابق للدفع المسبق تحت عناوين مختلفة. في العام 2017، كتب صاحب هذه السطور مقالاً تحت عنوان: “هاتوا أموالكم”، وكانت بداية تنفيذ تلك القاعدة” والعقيدة الترامبية، يوم ارتُكبت خطيئة حصار قطر. بعد ثماني سنوات يتكرّر المشهد ذاته، وبكلفة أعلى وخطر أكبر، وهو شطب فلسطين من الخريطة، وسيكون لذلك تداعيات خطيرة على المنطقة كلّها. في مرحلة معيّنة رفع شعار عربي: “مال العرب للعرب”. اليوم، مال العرب في مزاد الحماية الأميركية. عملياً، في مزاد التوريط الأميركي وقيام “إسرائيل الكبرى”.
العربي الجديد