المجتمعات التقليديّة بين مطرقة الحداثة وسندان التخلف.

د. عدنان عويّد

المجتمعات التقليديّة, هي المجتمعات التي لم تزل فيها “قوى الانتاج وعلاقات الانتاج”,(1) في حالة من الضعف والهجانة والتداخل بين الرعي والزراعة والحرفة والتجارة, والتي غالباً ما يغلب على اقتصادها سمات اقتصاد “السوق الصغيرة” و”الاقتصاد الريعي”, بغض النظر عن حالة الهجانة ودرجة التداخل بين أنماطها الانتاجيّة السائدة. إلا أن ما يمنحها صفة التشابه هو طبيعة العلاقات الاجتماعيّة والفكريّة السائدة أو المهيمنة, هذه العلاقات التي يغلب أو يسيطر عليها في السياق العام المرجعيات التقليديّة, ممثلة بالعشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب, هذه المرجعيات التي اخترقت حتى بنى أحزابها العلمانيّة, إضافة إلى ضحالةٍ وهشاشةٍ واضحةٍ في البنية الفكريّة, حيث يسود فيها وينتشر العقل الامتثالي القائم على النقل والرضوخ والرضى والاستسلام والتخيل والحدس الفردي, إضافة إلى النفاق المضخم للتراث, وما يحمله هذا التراث عند أبناء هذا المجتمعات التقليديّة من قيم, غالباً ما أُعطيت الصفة المثاليّة والقداسة, على اعتبارها الفردوس المفقود, وهي بعيدة في قسم كبير منها عن ذلك تماماً, إما بسبب التقادم وسقوط بعضها في سلة الاستهلاك الزمني, أو بسبب القداسة التي مُنحت لها وأصبحت غير قابلة للتعديل أو المراجعة أو الالغاء.
لا شك أن هذه المجتمعات التقليديّة بكل بناها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة, أخذت تتعرض اليوم لهزات عنيفة, بدأت تَكشفُ ضعف هذه البنى وهشاشة البنى الفكريّة للحوامل الاجتماعيّة المعبرة عنها, وبخاصة الجهل في رؤية هذه الحوامل إلى ما يحيط بها على المستوى المحلي والاقليمي والدولي من أحداث, راحت تبين كيف أن سوسة الحداثة بدأت تنخر في أساس بناها التقليديّة القائمة.
إن رغبة ورهان بعضُ القوى السياسيّة في عالمنا العربي – على سبيل المثال – داخل هذه المجتمعات التقليديّة, في استمراريّة وجود هذه البنى والاشتغال عليها سياسيّاً واجتماعيّا وثقافياً, هو رهانٌ على الحصان الخاسر أمام زحف الحداثة وتأثيرها الفاعل في خلخلة بنى هذه المجتمعات وتهديمها من الداخل, وبالتالي فإن أيّة محاولة من القوى السياسيّة الحاكمة لإعادة صياغة أو ترميم هذه العلاقات المفوّته حضاريّاً, بغية الحفاظ على الدولة القائمة, هي محاولات فاشلة لن تحقق النتائج المرجوة منها, ولن تكون هذه المحاولات أكثر من حالات إعلاميّة هزيلة وكرنفاليّه مرتبكة في الشكل والمضمون, تهدف إلى إشعار الخارج الاقليمي والدولي بأن وضع هذه المجتمعات ودولها بخير, علماً أن أهلها أنفسهم أدرى بشعاب ضعفها وبدء سقوط ليس أوراقها فحسب, بل أغصانها وتلف جذورها أيضاً.
من هنا نتساءل, ومن حقنا هذا التساؤل : أي عشيرة أو قبيلة أو طائفة أو مذهب في عالمنا العربي بقيت اليوم متماسكة وتلعب دوراً في تثبيت وجودها ووجود من يعوّل عليها من القوى السياسية الحاكمة أو الطامحة إلى السلطة أو الاستمرار بها؟, بل أي حزب من الأحزاب العربيّة الحاكمة المنخورة تنظيميّاً بهذه المرجعيات التقليديّة, استطاع ليس الدفاع عن نظامه الحاكم فحسب, بل عن مقراته أيضاً التي تركها وهرب أمام القوى السلفيّة الجموديّة ممثلة (بداعش والنصرة) على سبيل المثال لا الحصر؟. وهذا يدفعنا للتساؤل أيضاً, ماذا عملت اجتماعات عشائر العراق لنظام البعث وصدام حسين, الذي عوّل عليها الكثير للوقوف معه ضد من عمل على إسقاط حكمه وحكم البعث في العراق من الداخل والخارج مثلاً. وكذا الحال بالنسبة للقذافي وزين الدين العابدين, ومبارك والبشير وبشار الأسد..
نعم إن الحداثة وما حققته من تطور في التعليم والتكنولوجيا, وحصول مئات الألاف من أبناء هذه المجتمعات التقليديّة على الشهادات العليا, وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي, وتعميم أو التبشير بمفاهيم الدولة المدنيّة ومفرداتها مثل الديمقراطيّة والعلمانيّة والمواطنة ودولة المؤسسات والتشاركيّة وظهور التنظيمات الحزبيّة الجديدة وغير ذلك, قد ساهم في تحطيم سيادة سلطة شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والحزب الحاكم, وتأثيرها الفاعل على قيادة المجتمع نحو التقدم والنمو. فالدكتور والمهندس واستاذ المدرسة والجامعة ورئيس الدائرة, أصبح يشعر بدوره ومكانته في المجتمع, وبالتالي باستقلاليّة شخصيته وتفردها بقرارها الخاص بها, وإن ظل هناك أي تنظيم سياسي له تأثيره وحضوره الجماعي الفاعل في مجتمعاتنا ودولنا اليوم, فهو التنظيم القائم على العقيدة الدينيّة, كون العقلية المفوّتة حضاريّاً التي قمنا بتوصيفها أعلاه تتناسب في جوهرها مع عقلية الكثير من أفراد هذه القوى التقليديّة وحتى الحداثية منها. وهذا الالتزام بالعقيدة, نجده في أعلى درجات قوته لدى من انتسب إلى التنظيمات الدينيّة الجهاديّة, حيث وجدنا غياباً واضحاً وإقصاءً لدور ومكانة سلطة شيخ العشيرة والقبيلة والحزب الحاكم أمام سلطة مسؤولي قادة هذه التنظيمات وتأثيرها اللامحدود على من ينضوي تحت رايتها أو قيادتها.
لقد رأينا بأم أعيننا “الداعشي” أو من ينتمي لـ “لنصرة” من الفصائل الجهادية, كيف يقوم بقتل ابن عشيرته وقبيلته وقريته ووطنه وابن مذهبه إذا اختلف معه في الرؤية الدينيّة, أو المصلحيّة, بل إن بعض أبناء هذه التنظيمات قام بقتل أمّه أو أبيه عندما خالفاه في الرأي, أو حالا بينه وبين معتقداته, وهذا ما يدفعنا للتساؤل المشروع أيضاً, أين هو تأثير شيوخ العشائر والقبائل والطوائف والأحزاب الحاكمة على أبناء عشائرهم وقبائلهم وطوائفهم في أزمات ما سمي بثورات الربيع العربي؟.
نعم… لقد أسقطت الحداثة, والعقيدة السياسيّة الدينيّة معاً, سلطة شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة والأحزاب الحاكمة وفاعليتها وتأثيرها على المكوّن الاجتماعي التابع لها. لذلك نقول إن كل من يحاول الاشتغال اليوم على ورقة العشيرة والقبيلة وحتى الفكر الديني في صيغته (المدخليّة)(2), والبنى التقليديّة من أجل الحفاظ على الدولة واستقرار المجتمع هو يراهن على الحصان الخاسر, مع احترامي الشديد وتقديري لكل الأخوة من رموز العشائر والقبائل والطوائف والمذاهب ورجل الدين الوطنيين.
إن الحل الوحيد لعودة استقرار الدولة واللحمة الاجتماعيّة, هو التوجه نحو الشعب بكل مكوناته, وليس قيم العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب… التوجه نحو قيم الحاضر والمستقبل, وليس قيم الماضي المفوّت حضاريّا. إن الحل يمكن في تعميق دور المواطنة, والتعدديّة السياسيّة والمشاركة في السلطة وتداولها.. إن الحل في العلمانيّة والديمقراطيّة والتأسيس للدولة المدنيّة, ونشر الفكر العقلاني التنويري, والمشاركة الشعبيّة في قيادة الدولة والمجتمع, وبالتالي, فكل ممارسة خارج هذه القيم الحداثويّة, هي ممارسة خارج التاريخ ومآلها الفشل .. هذا هو منطق التاريخ, فلا تعاندوا سيرورة التاريخ وصيرورته وتوجه الحداثي, اتركوا الشعوب تقرر مصيرها, ولا تجعلوا من أنفسكم أوصياء على الشعب.. قد تخطئ هذه الشعوب في مسيرتها الحياتيّة ومنها السياسيّة بشكل خاص, بسبب اقصائها عمداً وغيابها الطويل عن الفعل السياسي العقلاني التنويري, ولكنها في المحصلة ستتعلم وتعرف طريقها الصحيح حتى ولو دفعت الثمن غالياً, ولا شيء عقلاني في السياسة يأتي بدون ثمن.
كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قوى الانتاج : هي الإنسان المنتج ووسائل الإنتاج كالآلة والأرض وكل ما يستخدم في العملية الإنتاجيّة.
علاقات الإنتاج: هي مجموع العلاقات التي تتم بين الناس أثناء العمليّة الإنتاجيّة.
والعملية الانتاجيّة هي: إنتاج البضاعة وتوزيعها واستهلاكها.
2- المدخليّة, أو التيار المدخل: هو تيار ديني يمثله مشايخ السلطان الذين يقودون المؤسسات الدينيّة التي تشرف عليها الدولة لتحقيق نفوذها والمصالح الأنانيّة الضيقة للقوى الحاكمة المستبدّة.