بين 1978 و2025، جرى توقيع اتفاق “كامب ديفيد” بين مصر والاحتلال، وانهار نظام الشاه في إيران، وشهد العالم حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، وجرى الاجتياح الصهيوني للبنان، وانهار الاتحاد السوفياتي، واحتل العراق الكويت، واحتلت أمريكا العراق لاحقا، وقّعت الأردن اتفاق التطبيع مع الاحتلال -اتفاق واد عربة- وشهدت المنطقة موجة أطلق عليها “الربيع العربي” الذي أطاح بحكام وأتى بآخرين، وبين التاريخين، شهدت فلسطين حروبا متعدّدة ضد الاحتلال الصهيوني آخرها “طوفان الأقصى”، وطيلة تلك السنوات، بقي رجل يدعى نائل البرغوثي بين أربعة جدران في الأسر لدى الصهاينة، حتى تحققت له الحرية مجدّدا.
نائل البرغوثي، الذي أمضى زهرة شبابه في الأسر، يؤكد في هذا الحوار مع “الشروق” بعد تحرره، أنه لن يتخلى عن المبدأ الذي ناضل من أجله في سبيل تحرير فلسطين من دنس الصهاينة، وأنه على العهد باق.
ويقدّم نائل البرغوثي مفاهيم واسعة عن الحياة في الأسر والتجارب التي عاشها هناك.
47 سنة قضيتها في سجون الاحتلال الصهيوني، ماذا يعني أن تكون أسيرا هناك؟
أكلمك وأنت من أرض الجزائر، أرض الشهداء، قيل إن الجزائر أرض المليون ونصف مليون شهيد، ولكن هي دفعت 5 ملايين شهيد في حربها ضد الاحتلال الفرنسي.
الجزائر كانت بالنسبة لنا وفي كل مراحل النضال الفلسطيني نموذجا يحتذى به، أتذكر وأنا صغير عندما شاهدت أول مرة فيلم “جميلة” الذي يتحدث عن أيقونة الثورة الجزائرية جميلة بوحيرد، كيف تعلّقت بالثورة الجزائرية وحتى اليوم.
أن يكون الإنسان أسيرا في السجن فهذا دليل على أنه لن يقبل بوجود محتل لأرضه، الإنسان في مواجهة المحتل قد يكون شهيدا أو أسيرا أو مُبعدا أو مصابا.
وبالتالي، مسيرة النضال والجهاد تكتنفها كل الصعوبات التي لا يقوى على تحمّلها من لا يريد أن يحرر وطنه وإرادة شعبه.
الأسر أحد محطات النضال، الإنسان في الأسر يتألم، لكن المهم أن الألم أمام المبدأ يهون، الإنسان صاحب قضية، وصاحب القضية لا يكل ولا يمل حتى يحقق الانتصار على الظلم والظالمين.
سنوات طويلة جدا قضتها في الأسر، هل لازمكم الأمل في الحرية؟
الأمل لم يغب ولو لحظة واحدة، في هذه اللحظة أستذكر خلال احتفالية الجزائر سنة 2020 بذكرى استقلالها، حيث تزامنت الذكرى مع استرجاع الجزائر لجثامين المقاومة الشعبية، ومنهم الشهيد الشريف بوبغلة.
ما حدث في ذلك اليوم ونحن في الأسر، كان ذو رمزية كبيرة جدا، وكنا نردّد مع بعضنا البعض ومع أنفسنا ونقول حتى جثمان إنسان ارتقى منذ عشرات السنوات وبقي جثمانه في فرنسا، لكنه عاد إلى الأرض التي حارب من أجلها وجاهد من أجل تحريرها، هاهي هذه الأرض تحتضن البطل الذي دفع حياته من أجل تحريرها من الاحتلال.
ما جرى لحظة عودة جثمان الشهيد بوبغلة والشهداء الآخرين إلى تراب الجزائر، زادت يقينا أن الجثمان إذا عاد، فالحي سيعود طبعا. الحي والشهيد يلتقيان عند مبدأ واحد وهو مقاومة الاحتلال.
أملنا لم ينقطع أبدا، وهل انقطع الأمل في الجزائر لمدة 132 عاما؟ الإجابة لا لم ينقطع، وهل انقطع الأمل في فيتنام بالتحرر؟ لا لم ينقطع، ونحن كشعب فلسطيني وكمناضلين لم ولن ينقطع أملنا في التحرر.

ما هي أسس اليقين للأسير بأنه سيتحرر آجلا أم عاجلا؟
لعدة أسباب، قناعاتنا في حقنا واستنادنا إلى تراث من نضال وجهاد أمتنا.
والأمل لو زال مرة واحدة، كنا سنعيش الجحيم حقيقة، ولكن بما أن الأمل مرادف لنا طول حياتنا في السجن، يكون السجن أقل ألما، بالعكس يكون حافزا على التزوّد في المحطات القادمة بعد التحرر، إن شاء الله.
تتحدث عن اليقين والألم، هل أنت متقين من نيل مروان البرغوثي وأحمد سعدات الحرية كذلك؟
نعم الأسرى على موعد قريب مع الحرية لأنهم لم يفقدوا الأمل، أولا، وثانيا بعد التوكل على الله، هم يعرفون أن إخوانهم الذين دفعوا دماءهم وأبناءهم وأرضهم وشجرهم وحجرهم، ليتحرروا وتتحرر فلسطين، لديهم يقين أنهم يرتكزون على جدار متين وجدار الذين بايعوا الله على أن يعود الأسرى أعزاء كرام، وإن كانت هناك شلالات من الدم، فهي شلالات ستورث الحرية لكل الأسرى بمن فيهم من ذكرت وآخرين، وإن ذكرت اسما ونسيت آخر يتم معاتبتي.
بالتالي، فالأسرى سعدات ومروان وإبراهيم حامد وعبد الله البرغوثي وبلال البرغوثي سيكونون أحرار، بحول الله، وهم يعلمون ذلك علم اليقين.
هل الفضل يعود للمقاومة فقط في تحريركم؟
نعم الفضل لله أولا، وثانيا لعباد الله الذين صدقوا الله، فصدقهم الله، وهيئوا الأسباب التي قال فيها رب العالمين و”أعدوا لهم”، فأعدّوا ما استطاعوا.
وكانت قضية الأسرى جزءا من قضايا التحرر، والفضل لله، ثم لمن بذل دمه نهرا في قطاع غزة ليخرج من ذابت أعمارهم في السجون، لتكون صفحة مشرقة في تاريخ هذه الأمة، أن هناك من بذل عمره في السجون، وقضى عشرات السنوات في زنزانات موحشة كئيبة تستنزف العمر والصحة.
هناك من بذل دمه وحياته لينقذ ما تبقى من أعمار هؤلاء الأسرى، فالكل متكامل، والمعادلة متكاملة متداخلة تنم عن روح إنسانية عظيمة جدا لمن قدّم نفسه وأهله وماله.
وبعد الشكر لله، نسأل الله أن يعوضهم أفضل الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن شاء الله، نكون على عهدهم، ونحافظ على إشراقة دمائهم التي أنارت الأمة في فترة الظلام المفروض علينا من بقايا الاستعمار.
أفنيت حياتك في الأسر بسبب نضالك لتحرير أرض فلسطين، لو عاد بك الزمن إلى الولاء هل ستسلك نفس الطريق وأنت تعرف الضريبة التي ستدفعها؟
هل الإنسان الحر يقبل أن يبقى تحت الاحتلال أو الاستعمار أو الظلم؟ أكيد لا.
لو عاد بي الزمن، لكررت نفس ما قمت به، وبشكل أفضل مما قدّمته أنا وغيري، هذا ديدن كل المناضلين في العالم.
هل في الجزائر، وهي بلد خاضت المقاومة لـ132 سنة ضد الاحتلال الفرنسي لنيل حريتها، لو عاد الزمن بهم هل سيرفع أهلها الراية البيضاء أمام الاستعمار الفرنسي؟ أكيد لا.
فكل مناضل صاحب قضية لن يكون دائما على تواصل مع كل أصحاب المبادئ، وإن عاد به الزمن، فسيعود.
ماذا تغيّر في وضع الحركة الأسيرة بعد السابع أكتوبر؟
كانت درجة الهجمة على أهلنا في قطاع غزة بالطائرات والدبابات وأفتك أنواع الأسلحة، وانتقلت إلى السجون بأفتك أنواع المعاملة بأقصاها وأخطرها وأخسها، ضد جميع الأسرى ونالت كل المناضلين، حتى وإن كان المعتقل شابا صغيرا لا يتجاوز 15 سنة يتم التعرض له بالإيذاء، حتى يردع ولا يعود إلى النضال من جديد.
هذا الأسلوب في سجون الاحتلال الوحيد، امتد عبر التاريخ وفي كل ثورات العالم وكل الشعوب، كان المستعمر ينتقم من الأسرى بعدما يتكبّد الخسائر من المقاومة ولا يقوى على مواجهتها.
الحقيقة أن الهجمة التي تعرضت لها الحركة الأسيرة بعد السابع من أكتوبر، كانت بالموازاة مع الهجمة في غزة التي كانت تتم بالطائرات والدبابات والصواريخ.
كانت الهجمة على الأسرى في سجون الاحتلال تتم بالهراوات والكلاب والركل والضرب وكل أنواع الإيذاء النفسي والجسدي، إضافة إلى سياسة التجويع.
كل هذه الأمور كانت محفّزة للأسرى بأن يعرفوا أنهم أصحاب قضية، وأن هناك أبطالا في الأمة يسعون جاهدين لتحريرهم.
فكان الصبر في داخل الأسر، وفي المرحلة التي تلت السابع من أكتوبر صبر أيوب.
والحمد لله، صبرنا ونلنا ولله شاكرين، وعلى العهد سائرين مهما كانت الظروف القاسية داخل سجون المحتل.
عندما تحررنا، في نفس اليوم، تم الاعتداء علينا جميعا، هناك من كسرت له أضلاع وأنا منهم وهناك من سال دمه من أنفه وجبينه.
بالمحصلة، ليس هناك أسير بعيد عن الظلم والتعذيب، هذه سياسة صهيونية حتى نرتدع، وهم يعلمون أننا لن نرتدع حتى نحمل رايات النصر في جميع مناطق فلسطين الحبيبة.
بعد 47 سنة في الأسر، ما هي النتيجة التي خرجت بها؟
النتيجة أنه لن تكون هناك راية بيضاء في مواجهة الاحتلال والظلم، أولا، وثانيا الاحتلال يعرف تماما أن الشعب الفلسطيني يضحي بقادته وبيته ويكون في خط المواجهة، الجندي مع القائد، والأم مع الابن والوالد مع أولاده والرضيع في حضن والدته، كلهم يقاومون، أعتقد أنها أعظم رسائل تم توجيهها في العصر الحديث من قطاع غزة المدمّر.
دُمّرت المباني وشيّعت النفوس العزيزة الكريمة، دُمّرت المباني، وبقي الإنسان شامخا وإن سقطت جميع هذه المباني يبقي الإنسان شامخا، ويبقى هذا الجيل يورث للأمة كلها كما علمتنا الجزائر وكما كُتب في نشيد الجزائر “قسما” سيورث الشعب الفلسطيني العزة والكرامة للأجيال القادمة.
هذا الجيل لم يورثوهم المال والسيارات الفاخرة والمباني الشاهقة، ولكن ورثوهم جيلا عزيزا كريما يعتز بأجداده ولن يعتز بأموال سلبت ووضعت في الجيوب، سيعتز بكل مناضل أطلق رصاصة في وجه العدو المحتل.
وهذا هو رأس المال الحقيقي للأمة المجاهدة وسيكون الشعب الفلسطيني على مفخرة كما تفخر الجزائر وكما فخرت فيتنام بأبطالها، سيفتخر الشعب الفلسطيني بهؤلاء المجاهدين جندا وقادة والأسرى.
بالتالي، ستبقى العزة والكرامة هي الميراث للشعب الفلسطيني وللأمة وليس كل ما يقال بأن الحياة هي للمال.
ماذا تقول في هذه الأسماء التي رحلت عن عالمنا ياسر عرفات، أبو علي مصطفى ويحيى السنوار؟
الثورات تولّد القادة وتولّد الكوادر وتولّد الأبطال، ومن ذكرت الأخ أبو عمار، رحمه الله اجتهد بعد أن فجّر الثورة العام 1965، واجتهد ولكنه لم يجد القبول ولم يجد الباب لأن هذا العدو يرفض السلام شعبيا وحكوميا ورسميا، لأنه يعلم لو تحقق الهدوء وأخذ الشعب الفلسطيني حقوقه، لانهار تماما.
الأخ أبو عمار، رحمه الله، خاض معركة التحرير ولكن أخطأ في التوجّه وخسر الرهان وآخر مقولاته صحّحت هذا المسار بأن قال: “إلى القدس شهيدة شهيدة شهيدة”، وتوفاه الله وهو يردّد هذه الكلمة، وبالتالي، علم أن مسار ما يسمى السلام المزعوم مع جهة لا تريد السلام وهم.
والأخ أبو علي مصطفى تم اغتياله بالطائرات رغم أنه عاد من عاد في فلسطين المحتلة، ولكنهم لم يحتملوا أن يكون هناك قادة.
والأخ الصديق العزيز الزميل أبو إبراهيم يحيى، كما قال الله في كتابه العزيز: “خذ الكتاب بقوة”.
هو أخذ الكتاب بقوة من كل من سبقه من قادة الثورة والتنظيمات، ليكون جبلا شامخا أعلى من كل جبال العالم.
أبو إبراهيم كان بطلا جدّد في هذه الأمة بأن أجر العمل على أجر القول وهو خير ما يقدّمه.
وبذل دمه ليكون إخوانه وزملائه ممن تركوا في السجون، وهم يعرفونه تماما بأنه صاحب الوعد لتحقيق حريتهم، ونسأل الله أن يتقبله شهيدا وأن يجزه عنا خير الجزاء، ويعوض أبناءه خير العوض.
الشهيد أبو إبراهيم مثال يحتذى به في الأمة وفي العالم أجمع، كما يعتز العالم بأبطال التاريخ في كل بلد وفي كل أمة.
أخي إبراهيم أخذ الكتاب بقوة في هذا العصر الذي تذهب الكتب ليس للقراءة ولا للقتال، بل للبحث عن كنوز مادية من الدولارات وغيرها، فكان دمه العملة الصعبة في هذا العصر ليكون للأجيال نبراسا يتغنى فيه كل فتى وكل شاب وكل امرأة، كما تغنينا وذكرنا سيرة أبطال الأمة عبر التاريخ من خالد بن الوليد إلى أخونا، رحمه الله، يحيى السنوار وزملاءه.
عبد السلام سكية
الشروق الجزائرية