السياسي – لم أستطع تجاوز حالة الانبهار والاحترام التي اعترتني وأنا أتابع خبر استقالة تسعة من كبار المسؤولين والوزراء في هولندا؛ خطوة لم تكن اضطرارًا، ولا هروبًا من أزمة محلية، ولا حتى مخرجًا سياسيًا لحفظ ماء الوجه، بل كانت موقفًا أخلاقيًا صرفًا أمام مأساة إنسانية لا تزال فصولها تُكتب بدماء الأبرياء في غزة.
هؤلاء المسؤولون كان يسعهم أن يكتفوا بما يجيده كثير من السياسيين في العالم: تصريحات نارية، أو إطلاق مبادرات إنسانية محدودة، أو جمع تبرعات من جيوب مواطنيهم – لا من جيوبهم – ليكتمل المشهد الإعلامي، وتظل عجلة المجازر دائرة بلا توقف. كان يسعهم أن يقولوا: “لقد فعلنا ما بوسعنا” ثم يعودوا إلى مقاعدهم الوثيرة وملفاتهم الداخلية.
لكن المروءة أبت عليهم ذلك.
-المروءة قبل السياسة
كلمة “المروءة” في ثقافتنا العربية والإسلامية تحمل دلالات عميقة: الشهامة، تحمل المسؤولية، الوقوف مع المظلوم، وتقديم المبادئ على المصالح. وهي قيمة نُسجت حولها آلاف القصص في تاريخنا، حتى غدت عنوانًا للشرف وكرامة النفس.
والمفارقة المؤلمة أن هذه القيمة باتت تُترجم اليوم في هولندا أكثر مما تُترجم في عواصمنا العربية. ففي اللحظة التي شعر فيها الوزراء التسعة أنهم عاجزون عن التأثير المباشر في وقف الإبادة المستمرة، لم يبحثوا عن مبررات، ولم يختبئوا خلف خطابات دبلوماسية باردة، بل سارعوا إلى الاستقالة؛ كأنهم يقولون للعالم: “لسنا جزءًا من جريمة الصمت”.
أين المروءة العربية؟
حين نقارن هذا الموقف بما نراه في بلادنا، يزداد الجرح اتساعًا. فكم من مسؤول عربي جلس على كرسيه عقودًا وهو يشهد الإبادة والاحتلال والظلم، مكتفيًا بعبارات شجب معتادة أو بيانات بروتوكولية لا تسمن ولا تغني من جوع؟
بل كم من مسؤول انشغل بحساباته الضيقة، أو بالبحث عن رضا القوى الكبرى، فيما دماء الأبرياء تُسفك على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات منه- إن لم يكن هو شريكا بها أصلا؟
لقد تراجعنا إلى درجة أن المطالبة بالحد الأدنى من المروءة ـ لا البطولة ـ باتت رفاهية نادراً ما نسمع بها.
البعد العملي.. السياسة والأخلاق
قد يقول قائل: “الوزراء الهولنديون لم يوقفوا الحرب باستقالتهم، فما الفائدة العملية؟” والجواب أن البعد هنا ليس عسكريًا ولا اقتصاديًا، بل أخلاقي-سياسي بامتياز.
ففي علم السياسة، هناك ما يسمى بـ”الموقف الرمزي” (Symbolic Politics)؛ حيث يكون للفعل دلالة أكبر من أثره المباشر. استقالة تسعة وزراء دفعة واحدة تُحدث زلزالًا في الوعي العام: الناخب الهولندي يرى أن حكومته متواطئة في جريمة، وأن مسؤوليه يرفضون أن يكونوا شهود زور. الإعلام الهولندي يفتح ملف غزة بشكل أوسع، والمعارضة السياسية تكسب ذخيرة جديدة لمواجهة السياسات الداعمة لإسرائيل.
بهذا المعنى، الاستقالة ليست انسحابًا من المعركة، بل دخولًا إليها من باب آخر: باب الكرامة والضغط الأخلاقي.
الدرس الذي لا يريد العرب تعلمه
إن الأوطان لا تُبنى على الصفقات وحدها، ولا على الحسابات الباردة، بل على المروءة التي تجعل المسؤول يشعر بثقل الدماء البعيدة وكأنها تسيل أمام بابه.
وحين يفقد المسؤول العربي هذه المروءة، يصبح كل شيء قابلًا للتبرير: التطبيع مع الاحتلال، الصمت على المجازر، بل وحتى المشاركة في خنق الشعوب المحاصرة.
لحظة مراجعة
الاستقالة في حالتنا العربية تكاد تكون خيانة للدولة أو “هروبًا من المسؤولية”، مع أن في حقيقتها قد تكون أسمى أشكال تحمّل المسؤولية. فالمسؤول الذي لا يملك التأثير، أو الذي يرى أن موقعه بات غطاءً لجريمة أكبر، عليه أن يختار: إما أن يبقى شاهد زور، أو أن يسجّل موقفًا في التاريخ.
وللأسف، اختارت الغالبية أن تكون شهود زور، بينما يختار آخرون ـ كحال الوزراء الهولنديين ـ أن يُخلّدوا أسماءهم كرمز للشرف السياسي.
لا نطلب من المسؤولين العرب أن يحملوا السلاح، ولا أن يغامروا بمستقبل شعوبهم في معارك غير محسوبة، بل نطلب فقط مروءة. أن يرفضوا أن يكونوا أدوات بيد المحتل، أو شهود زور أمام الإبادة. أن يتعلموا أن الموقف الأخلاقي ـ حتى لو بدا بلا أثر مباشر ـ قد يكون أقوى من آلاف التصريحات الفارغة.
لقد أثبت الوزراء التسعة في هولندا أن السياسة يمكن أن تُمارَس بكرامة، وأن المروءة ليست حكرًا على أمم بعينها، بل هي خيار إنساني مفتوح. والسؤال الذي يظل يؤرقنا: متى يستعيد المسؤول العربي شرف المروءة المفقود؟
- الكاتب عدنان حميدان