هل ما زلنا نعيش عصراً أُفرِغَ من الفروسية والتراجيديا والإيثار، وشحَّ فيه الشهود الصادقون، والقابضون على جمر الحقيقة؟ يبدو أنّ الإجابة تميل إلى الإيجاب، إذا ما نظرنا بعمق إلى ميزان القيم في زمننا هذا. لقد اختلّ هذا الميزان بفعل تغليب المادّي على الروحي، والشخصي على العام والإنساني، حتى أصبح كثير من السلوكيات محكوماً بمنطق المنفعة الفورية لا بمنطق المعنى أو الواجب الأخلاقي.
في هذا السياق، يغدو المشهد كأنّه مفارقة زمنية صارخة: سنترك للأجيال القادمة إرثاً تقنيّاً مذهلاً، سيتأملون فيه بإعجاب بالغ، وسيقولون عن عصرنا إنّه بلغ ذروة العلم والمعرفة، وإنّه استطاع أن يخترق حدود الغلاف الجوي، ويضع أقدامه على سطح القمر، ويصل بأجهزته إلى تخوم المجرّات. لكن هذا الإعجاب لن يحجب حقيقة أخرى أكثر مرارة: أنّنا – في الوقت ذاته – بقينا على جهل فاضح بالأرض التي نقف عليها، بتاريخها العميق، وبحاجات البشر الذين يحيون عليها.
فالإنسان، وهو ينهمك في مراكمة الإنجازات التقنية، ترك ثالوث الجوع والمرض والفقر خارج مدار اهتماماته الفعلية، بل وخارج قدرة أنظمته الذكية على اجتثاثه. كأنّ العقل البشري قد أجاد مدّ الجسور إلى الكواكب البعيدة، لكنه لم يفلح في بناء جسر من قلب المدينة الغنيّة إلى قرية منسية على أطرافها.
هذه المفارقة ليست مجرّد خلل في الأولويات، بل هي أزمة وعي عميقة: كيف يمكن لحضارة أن تعرف تركيب الغبار الكوني ولا تعرف كيف تقتلع الجوع من أفواه أطفالها؟ كيف يمكن لها أن تحصي نبضات نجم بعيد ولا تشعر بنبض الإنسان الجريح بجوارها؟
إنّ هذا العصر – على ما فيه من بريق – يبدو وكأنّه فقد شيئاً من “التراجيديا” النبيلة التي تضع الإنسان في مواجهة قدره بشجاعة، وفقد شيئًا من “الفروسية” التي تجعل القوي يحمي الضعيف، ومن “الإيثار” الذي يدفع المرء للتضحية من أجل الآخر. وبفقدان هذه القيم، يصبح التقدم العلمي أشبه بجسد عملاق يسير على ساقين هشّتين من الأخلاق.
ولعلّ أعظم درس يمكن أن نحمله إلى القادمِين من بعدنا هو أنّ الإنسانية لا تُقاس فقط بما تحققه في مختبراتها، بل بما تفعله لأجل حياة أكثر عدلاً على الأرض. عندها فقط، يصبح الوصول إلى المجرّات امتداداً طبيعيّاً لروح عادلة، لا هروباً من مسؤوليات لم ننجزها هنا.