مدعوماً بإجماع عربي ورغبة دولية في استمرار المفاوضات غير المباشرة بين أميركا وإيران للتوصل إلى تفاهم يضع الأزمة بين الطرفين على سكة حل منطقي، يستمر الوسيط العماني في مساعيه للقيام بدور المعطّل، قدر الإمكان، للألغام التي تعترض طريق هذه المفاوضات، مما قد ينطبق على وصف الزيارة السريعة التي قام بها وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي إلى طهران، حاملاً ورقة المقترحات الأميركية إلى الجانب الإيراني.
هذه الزيارة وما تسرّب عن ورقة الشروط والمطالب الأميركية، وضعا المفاوضات في المنطقة الرمادية، إلا أن ذلك لا يعني، بأي شكل، إرادة ورغبة الطرفين في استمرار التفاوض والحفاظ على المسار الذي بدأ، وبلغ جولته الخامسة بايجابية معلنة، وانتظار الانتقال إلى الجولة السادسة التي قد تكون حاسمة.
رمادية المفاوضات زادها غموضاً وعتمة، التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول المستويات المقلقة التي بلغتها أنشطة تخصيب اليورانيوم الإيرانية، وإمكان أن يتحول هذا التقرير إلى أرضية ممهدة لدخول مجلس الأمن على خط التجاذب بين إيران ومجموعة الدول “5+1″ المعنية باتفاق عام 2015، وإمكان العودة لتفعيل عقوبات مجلس الأمن تحت البند السابع ضد إيران.
ولم يفلح اللقاء الذي حصل بين مدير الوكالة الدولية رافائيل غروسي ووزير خارجية إيران عباس عراقجي، على هامش زيارته العاصمة المصرية القاهرة، في نزع فتيل الأزمة مع الوكالة الدولية، مما دفع إيران إلى تحذير دول الـ”ترويكا” الأوروبية من تداعيات العودة لمجلس الأمن وتفعيل عقوباته من جديد، والتي قد تدفع طهران إلى اتخاذ خطوات تصعيدية للرد على ذلك، في الأقل بإعلان الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.
المواقف المتغيرة التي تصدر عن الجانب الأميركي، خصوصاً ما يتعلق بالموقف من أنشطة تخصيب اليورانيوم على الأراضي الإيرانية والتمسك بضرورة تفكيكها وإنهائها بصورة تامة، قد لا تعني انتفاء إرادة الطرفين في الحفاظ على طاولة التفاوض غير المباشر، وإمكان التوصل إلى “اتفاق أو تفاهم إطاري” يحافظ على استمرارها من أجل التوصل إلى آليات إلغاء العقوبات السياسية والاقتصادية الأميركية.
وقبل “الاتفاق الإطاري” المتوقع، يبدو أن الأزمة تكمن، بوضوح، في مسار بناء الثقة بين الطرفين، إلا أن غياب هذه الثقة حالياً، لا يعني أن كلا الطرفين يتعامل مع المفاوضات الجارية بينهما من منطلق “الغموض البناء” الذي يسمح لهما بتقاسم الأدوار لتعزيز هذا الغموض، وصرف الأذهان عما يدور حقيقة في أروقة التفاوض، إضافة إلى ما يسمح به لكل منهما في إدخال تغييرات على مواقفه بناء على المستجدات السياسية والميدانية.
وعودة الرئيس الاميركي دونالد ترمب للحديث عن تفكيك أنشطة تخصيب اليورانيوم وعدم السماح لإيران بامتلاك أي مستوى من هذه الأنشطة، اعتبرته طهران متعارضاً مع ما جرى التفاهم حوله خلال الجولة الخامسة بين الطرفين تحت حراب الخطوط الحمر لكل منهما والمتعلقة بالتخصيب، إلا أن الإجراءات التي اتخذها ترمب بإقالة عدد من المسؤولين المعنيين بالملف الإيراني وتعليق العمل بقرارات العقوبات الجديدة ضد إيران، تعطي إشارات عن رغبة أميركية في الحفاظ على المسار التفاوضي والسعي إلى التوصل لتفاهم إطاري يرسم خريطة طريق عملية ومستقبلية.
في المقابل، فإن إعلان طهران تمسكها بالتفاوض وعدم مغادرة الطاولة، وأنها ستردّ على المقترحات الأميركية بما يتناسب مع المصالح القومية لإيران، ترافق مع تصاعد الشكوك لدى المفاوض الإيراني بوجود محاولات واشنطن لابتزازه وفرض شروط من خارج الإطار العام للمفاوضات، مستفيدة من ورقة الضغط التي وفّرها تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وما يمكن أن تحققه من نقاط مجانية تقدمها الـ”ترويكا” الأوروبية، بخاصة أن الهامش الإيراني للتعامل مع تداعيات هذا التقرير ستكون محصورة بين واحد من خيارين، إما القبول بتمديد مفاعيل الاتفاق لمدة تصل إلى عقد من الزمن في الأقل، في النقطة المتعلقة بنهايته أو “غروبه” في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، أو الذهاب إلى الفصل السابع وعودة كل العقوبات الدولية من دون أن يكون حلفاؤها في الـ “5+1” قادرين (أي الروسي والصيني)على التدخل لمصلحتها.
وطرفا التفاوض يدركان جيداً أن فرصة الاتفاق والتفاهم أقرب من أي وقت مضى، وأن مرور نحو عقد من الزمن على اتفاق عام 2015 كان كفيلاً بالكشف عن نقاط ضعفه، وأن التفاوض المباشر والثنائي يمهد الطريق للتفاهم، وأكثر قدرة على الاستمرار، لأنه سيكون بعيداً من تأثير الدول الأخرى التي تسعى إلى تأمين مصالحها الاقتصادية من أي اتفاق. وعلى العكس من محاولات ترمب الاستئثار بالنتائج الاقتصادية على حساب الأوروبيين، فإن طهران لن تتخلى عن علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع الحليفين الروسي والصيني من خارج الاتفاق مع واشنطن، وستسعى إلى التقليل من التأثيرات السلبية في هذه العلاقة لأية تفاهمات قد تحصل مع واشنطن.
وفي ظل التزام طرفي التفاوض الإبقاء على المحادثات في حال من الإبهام والغموض، إلا أن بعض المؤشرات يكشف عن أن المسار القائم قد ينتهي إلى تفاهم أو اتفاق على مرحلتين، الأولى تأخذ عنوان الإطار العام الذي من الممكن أن يحصل في المدى القريب، والثانية الإطار التنفيذي الذي يتضمن خطوات تطبيقية وزمنية متدرجة ومتوالية، تؤسس لاتفاق طويل الأمد وواسع بين الطرفين.
وإذا ما كانت المرحلة الأولى قد تتضمن طلباً أميركياً بتعليق أنشطة التخصيب لمدة تصل إلى ستة أشهر مقابل اعتراف أميركي بحق إيران في الاحتفاظ بأنشطة تخصيب اليورانيوم على أراضيها، بمستوى 3.67 في المئة لإنتاج الوقود للمفاعلات الكهرونووية والاحتفاظ بأجهزة طرد مركزي محددة نوعاً وكمّاً، وعدم تطوير هذه الأجهزة أو بناء منشآت جديدة، مع توسيع مهمات التفتيش الدولي بمشاركة أميركية مباشرة، فإن المرحلة الثانية والمرتبطة بنتائج وتفاهمات المرحلة الأولى قد تشمل خطوات تطبيقية وتنفيذية متبادلة ومتزامنة بين الطرفين.
وما يمكن أن تتضمنه هذه المرحلة، بخفض أنشطة التخصيبب من باب تعزيز الثقة، تقوم، في المقابل، واشنطن برفع العقوبات المرتبطة بالبرنامج النووي أو التخفيف منها بصورة ملموسة. أما في الخطوة الثانية التي تشكل الدخول في التفاصيل بما فيها من خطورة وصعوبة، فتقوم واشنطن بتحرير الأموال الإيرانية المجمدة والبالغة أكثر من 5 مليارات دولار، وتوقف إيران أنشطة تخصيب اليورانيوم بمستوى 60 في المئة، ليجري بعد ذلك الانتقال إلى الخطوة الثالثة بأن تعلن واشنطن إلغاء العقوبات الثانوية على الشركات الإيرانية، مقابل أن تسمح طهران بعودة المفتشين الدوليين بصلاحيات أوسع بمشاركة أميركية فاعلة في التفتيش للتأكد من تنفيذ إيران التزاماتها.
أما الخطوة الرابعة، فتتضمن قيام واشنطن بإعادة إيران لنظام التحويل المالي الدولي “سويفت”، وفي المقابل تصدّر إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى بلد ثالث يُتفق عليه. أما الخطوة الخامسة، فتتضمن إلغاء واشنطن لكل العقوبات المالية على البنوك الإيرانية مقابل أن تعود إيران لمستويات تخصيب يُتفق عليها على أراضيها.
هذه الخطوات وهذه التقديرات تبقى رهناً بإرادة الطرفين على استمرار التفاوض من أجل الوصول إلى تفاهمات تضمن مصالحهما وتؤسس لمرحلة مختلفة من التعاون بنيهما على المستوى الإقليمي، ولعل المؤشر الأكثر إيجابية على هذه الإرادة يكمن في الإعلان عن موعد الجولة السادسة للتفاوض التي من المفترض أن تكسر التراكم السلبي للمواقف التي سيطرت ما بعد الجولة الخامسة. والفشل في إرساء تسوية حول مطالب كلا الطرفين قد ينسف المسار التفاؤلي، ويعيد الأمور لنقطة الصفر والمنطقة لدائرة التوتر المفتوح على كل الاحتمالات.
نقلا عن اندبندنت عربية