في بيتٍ يغصّ برائحة الصمود، وفي مدينة رام الله التي تختزن وجع الوطن وحنينه، اجتمع وفد نادي الأسير الفلسطيني إلى عائلة القائد مروان البرغوثي ليؤكد أنّ الأسرى ليسوا وحدهم، وأنّ كلّ حجر في فلسطين يشهد لهم، وكلّ دمعة أمّ وكلّ آهة طفل هي امتداد لخطاهم داخل الزنازين. لم تكن الزيارة مجرد بروتوكول عابر، بل كانت لحظة تختصر تاريخاً طويلاً من الوفاء والالتزام، لحظة تذكّر بأنّ الأسرى هم قلب فلسطين النابض، وأنّ معركتهم ليست قضية قطاع ضيق أو جماعة محدودة، بل هي معركة الوجود والكرامة، معركة أمة تبحث عن فجرها في ظلام القيد. هناك، في مقر الحملة الشعبية لإطلاق سراح مروان البرغوثي، ارتفعت الكلمات لتعلن عن ميلاد مبادرة بحجم الوطن: “المليون صورة”. مليون صورة ليست مجرد ألبوم فوتوغرافي، بل مليون نافذة تفتح على ذاكرة الأسرى، مليون وجه يتحدى الجدران، مليون شهقة حرية تسابق الغياب. إنّها محاولة لاستعادة ملامح الذين أراد الاحتلال دفنهم في الظلّ، وإحياء الصور التي صاغها فعلهم النضالي في وجدان شعب لا ينسى. فالمعركة اليوم لم تعد في ميدان السجن وحده، بل في ميدان الذاكرة والصورة والكلمة، حيث يصبح للملامح المأسورة القدرة على اختراق جدران العزلة والوصول إلى قلوب الملايين. لقد كانت كلمات عبد الله الزغاري، رئيس نادي الأسير، ومن معه من قيادات النادي، واضحة وحاسمة: إنّ التهديد العلني باغتيال القائد مروان البرغوثي ليس مجرد تصريح متطرف من وزير فاشي، بل هو سياسة مدروسة تهدف إلى كسر رموز الحركة الأسيرة وإطفاء شعلة الأمل في وعي الجماهير. لكنّ شعبًا قدّم آلاف الشهداء وملايين التضحيات لا ينكسر أمام تهديد، ولا تنطفئ جذوته أمام وعيد. بل على العكس، يخرج من بين الركام بفعل جديد، بحملة تصرخ في وجه العالم وتقول: نحن هنا، أسرانا أحياء فينا، صورهم في قلوبنا قبل أن تكون في جدراننا، أصواتهم في حناجرنا قبل أن تكون في بياناتنا. منذ بداية حرب الإبادة الأخيرة، ارتقى 76 شهيدًا من بين الأسرى والمعتقلين، في واحدة من أبشع جرائم الاحتلال الذي حوّل الزنازين إلى مقابر صامتة، حيث يمارس التعذيب والإهمال الطبي والقتل البطيء كسياسة ثابتة. لكن الدم لا يُمحى، والصورة لا تُكسر، والتاريخ لا يرحم القتلة. لذلك جاءت “المليون صورة” لتكون ردًا بحجم الجريمة، لتفضح القتلة في كل محفل دولي، ولتجعل من وجه مروان البرغوثي ومن وجوه رفاقه قناديل تضيء دروب المقاومة، وتعيد صياغة الرواية الفلسطينية بلغة الوفاء. إنّ الصورة هنا تتحول إلى وثيقة سياسية، إلى قصيدة نضال، إلى علم يرفرف في كل بيت فلسطيني. صورة الأسير ليست صورة فرد، بل هي صورة الوطن كلّه، وجه أمة تقاوم منذ أكثر من سبعة عقود ولا تزال. ومن بين كلمات فدوى البرغوثي، زوجة القائد، بدا واضحًا أنّ هذه الحملة ليست مجرد دعم رمزي، بل هي سند روحي ومعنوي لعائلات الأسرى التي تعيش يوميًا على الأمل، وتواجه الليل الطويل بالثبات والصبر. لقد قالتها بصدق: إنّ نادي الأسير ظلّ، رغم كل العواصف، السند الحقيقي لقضية الأسرى، والدرع الذي يذكّر العالم بأنّ خلف القضبان هناك حياة كاملة معلقة تنتظر الفرج. إنّ “المليون صورة” ليست نهاية المطاف، بل بداية زمن جديد، زمن تُرفع فيه صور الأسرى إلى مرتبة الأيقونات، لتظل وجوههم تلاحق الضمير الإنساني أينما كان، وتفضح الصمت المريب للعالم، وتؤكد أنّ الحرية ليست منّة بل حق، وأنّ فلسطين لا تُهزم ما دام أبناؤها يقاومون حتى بأجسادهم المقيّدة. فلتكن هذه الحملة مليون مرآة تعكس وجوه الأسرى إلى كل بيت، مليون شمعة تحرق عتمة السجون، مليون صرخة تحاصر العالم بالحق الفلسطيني، ولتكن صور مروان البرغوثي ورفاقه وجوهًا لا تغيب عن ذاكرة الأمة، فالقيد إلى زوال، والحرية إلى قدوم، ومهما حاول الاحتلال طمس الملامح سيظل وجه الأسير هو وجه فلسطين الباقي، هو الخريطة الحيّة التي لا يمكن محوها، وهو البرهان الأخير أنّ شعوبًا كاملة قد تُقيد لكنها لا تُكسر.
