المناطق الصفراء في شمال وشرق غزة هندسة الفراغ الأمني ومآلات الصراع المفتوح

بقلم :سامي إبراهيم فودة

لم تعد الحرب على قطاع غزة تُدار بمنطق الضربة العسكرية المباشرة فحسب، بل انتقلت إلى مرحلة أكثر تعقيدًا، يمكن توصيفها بأنها إعادة تشكيل قسرية للجغرافيا الأمنية. وفي قلب هذه المقاربة، برز مفهوم “المناطق الصفراء المحظورة” في شمال وشرق القطاع، بوصفها أداة ميدانية لتكريس واقع جديد، لا يقوم على الاحتلال التقليدي، ولا على الانسحاب، بل على إدارة الفراغ بالقوة.
وفي هذا السياق، يُقصد بتوصيف شرق غزة الشريط الحدودي الشرقي المحاذي للسياج الفاصل (الشايك)، الممتد على طول الحدود من شمال القطاع، مرورًا بشرق مدينة غزة والمنطقة الوسطى، وصولًا إلى شرق خانيونس ورفح، وذلك وفق الجغرافيا الميدانية التي كانت قائمة قبل معركة “طوفان الأقصى”. وهو شريط كان يُدار أمنيًا قبل الحرب كمناطق تماس، ويجري اليوم تحويله إلى مناطق محظورة مغلقة بالكامل.
أولًا: ماذا تعني “المناطق الصفراء” في العقيدة العسكرية؟
في الفهم العسكري، لا يُستخدم مصطلح “المنطقة الصفراء” توصيفًا عابرًا، بل يُقصد به:
منطقة اشتباك دائم أو محتمل
خاضعة للمراقبة النارية المستمرة
يُسمح فيها باستخدام القوة دون إنذار
تُحظر عودة المدنيين إليها أو الاقتراب منها
في شمال وشرق غزة، وخصوصًا على امتداد الشريط الحدودي الشرقي، جرى تثبيت مكعبات إسمنتية صفراء كنقاط تقدم بطيء ومدروس، يتجاوز الخطوط السابقة عشرات الأمتار، ليخلق شريطًا رماديًا بين السيطرة والنفوذ. عمليًا، تحوّلت هذه المساحات إلى حزام موت، حيث لا وجود لقواعد اشتباك إنسانية، ولا اعتراف بكونها مناطق سكنية.
النتيجة المباشرة:
إفراغ جغرافي طويل الأمد، ومنع عودة السكان، وخلق واقع قسري يصعب كسره دون تغيير استراتيجي كبير.
ثانيًا: هندسة الفراغ الأمني… خيار مؤقت أم مشروع دائم؟
المؤشرات الميدانية توحي بأن الهدف لا يقتصر على إضعاف البنية العسكرية للمقاومة، بل يتعداه إلى:
خلق فراغ أمني دائم على طول الشريط الحدودي الشرقي
تحويل المنطقة إلى حزام عازل غير معلن من شمال القطاع حتى رفح
تركها خارج أي سيادة مدنية أو إدارة مستقرة
في هذا السياق، تُطرح سيناريوهات حساسة، تتعلق بمحاولات فرض وقائع اجتماعية أو أمنية جديدة، أو الاعتماد على أدوات محلية هشة لإدارة هذا الفراغ. غير أن هذا الخيار يبقى عالي المخاطر، لأن:
الفراغ الأمني لا يستقر دون غطاء سياسي واضح
ولا يصمد أمام تحولات إقليمية مفاجئة
ولا يمكن تحصينه في ظل بيئة معادية ممتدة
بمعنى آخر، ما يبدو اليوم تفوقًا ميدانيًا، قد يتحول سريعًا إلى عبء استراتيجي.
ثالثًا: البعد الإقليمي… عندما تتسع الجبهات
لا يمكن قراءة ما يجري في غزة بمعزل عن المشهد الإقليمي الأوسع. فاحتمالات التصعيد لا تزال قائمة، وتشمل:
توسيع المواجهة على الجبهة اللبنانية
انخراط جبهات أخرى في العراق واليمن
تصعيد متبادل عالي الكلفة قد يخرج عن السيطرة
في حال تحقق هذا السيناريو، ستكون إسرائيل أمام معادلة صعبة، تُجبرها على:
إعادة توزيع قواتها
تخفيف الضغط على بعض الجبهات
وربما الانسحاب الجزئي أو إعادة التموضع من أجزاء من الشريط الحدودي الشرقي
وهنا تكمن المفارقة الاستراتيجية:
ما يُبنى اليوم كمنطقة عازلة، قد يتحول غدًا إلى نقطة ضعف في حرب متعددة الجبهات.
رابعًا: الانعكاسات والرهانات المفتوحة
أي تصعيد إقليمي واسع سيحمل انعكاسات مباشرة، من بينها:
تعميق المأساة الإنسانية وإطالة أمد المعاناة
أو فتح نافذة ضغط سياسي ودولي جديدة
أو فرض وقائع ميدانية تُعيد خلط الحسابات
الأمر مرهون بمدى اتساع المواجهة، وقدرة الأطراف على تحمّل حرب استنزاف طويلة تُدار على أكثر من مسرح في آن واحد.
في ختام سطور مقالي:
المناطق الصفراء في شمال وشرق غزة، وخاصة على امتداد الشريط الحدودي من شمال القطاع حتى شرق خانيونس ورفح، ليست تفصيلًا عسكريًا عابرًا، بل أداة استراتيجية لإعادة تشكيل المكان والإنسان معًا. لكنها في الوقت ذاته تعكس قلقًا عميقًا من المستقبل، لأن الجغرافيا التي تُفرض بالقوة، تظل هشّة أمام أي تحوّل كبير في موازين الإقليم.
بين فراغ أمني مفروض، وتصعيد إقليمي محتمل، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل تستطيع إسرائيل تثبيت هذا الحزام كأمر واقع دائم؟
أم أن مفاجآت الإقليم ستجبرها على التراجع وإعادة التموضع؟
الأيام القادمة وحدها تحمل الجواب.