في عالمٍ تهيمن عليه الفجوات الطبقية واللامساواة الهيكلية، يبدو الحديث عن “المواطنة” وكأنه ترفٌ لغوي أو شعارٌ سياسيٌّ مفارقٌ للواقع، خصوصاً حين تُختزل في واجبات وطنيةٍ دون تمكين فعليٍّ من الحقوق. فلا يمكن تصوّر وجود مواطنةٍ فاعلةٍ في ظل استمرار الفقر البنيوي، وسوء توزيع الثروات، واحتكار فئةٍ ضئيلةٍ لامتيازات كاملة مقابل حرمان الأغلبية، ولا سيّما من آليات المشاركة السياسية العادلة، وفرص تقلّد المناصب العامة. ومن هنا، تتقاطع أبعاد الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي لطرح سؤالٍ جوهري: هل يمكن الحديث عن مواطنة بلا عدالة اقتصادية واجتماعية؟
أولاً: المواطنة كمفهوم فلسفي يتجاوز الورق:
تُعرَّف المواطنة في الأدبيات السياسية والفلسفية باعتبارها علاقة قانونية وأخلاقية بين الفرد والدولة، لكنها تتجاوز هذه العلاقة لتصبح مشاركة حقيقية في الشأن العام، كما ذهب جان جاك روسو حين رأى أن “المواطن لا يكون كذلك إلا إذا شارك في صناعة القوانين التي يخضع لها”. وهذا يفترض بالضرورة مساواةً فعلية، لا صورية، في الحقوق والفرص.
_إن مفهوم المواطنة عند الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت لا ينفصل عن الحق في الفعل السياسي العام، وهو ما يغدو مستحيلاً في ظل الهيمنة الطبقية والاستئثار السلطوي. فالمواطنة ليست بطاقة هوية، بل قدرة واقعية على التأثير، وهي تُنتزع ولا تُمنح.
ثانياً: الفقر كعائق بنيوي أمام تحقق المواطنة:
_ يرى بيير بورديو أنّ الفقر لا يعني مجرد نقص في المال، بل هو حرمان متعدد الأبعاد يشمل الرأسمال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهذا الحرمان يُنتج تهميشاً سياسياً تلقائياً. فالمحرومون من الثروة يُقصَون عادةً من دوائر القرار، ولا تتاح لهم إمكانات المشاركة المؤثرة. وهكذا تصبح المواطنة امتيازاً طبقياً لا حقاً عاماً.
_ أما أمارتيا سِن، المفكّر الاقتصادي والفيلسوف، فيربط بين الحرية والتنمية، مؤكداً أن العدالة تقوم على “القدرة الفعلية على تحقيق الخيارات”. فالفرد الفقير لا يمتلك حرية الاختيار أصلاً، وبالتالي لا يمتلك شروط المشاركة السياسية التي تُعَدّ ركيزة المواطنة.
ثالثاً: سوء توزيع الثروة كمصدر للتمييز الممنهج:
حين تُحتكر الثروة في يد نخبةٍ ضئيلة، فإن ذلك يُنتج تراتبية اجتماعية تُقنّن التمييز وإن بدا خفياً. وهذا ما أشار إليه توماس بيكيتي في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين، حين كشف كيف يعيد تركّز الثروة إنتاج الطبقات العليا سياسياً وثقافياً، ويحدّ من إمكانيات الصعود الاجتماعي لأبناء الطبقات الدنيا.
وهكذا، تصبح “المواطنة” في هذا السياق محكومة بمبدأ غير معلن: من يملك يحكم. بينما يُقصى أبناء الفئات المحرومة، لا من الثروة فقط، بل من فرص التعليم والصحة والتأثير أيضاً.
رابعاً: المشاركة والحق في المنصب العام بين المبدأ والواقع:
تُعدّ المساواة في تقلّد المناصب العامة إحدى الركائز الجوهرية للمواطنة. لكنها، كما يشير جون رولز في نظريته حول العدالة، ليست ممكنة إلا إذا جرى تصحيح “اللاعدالة الأصلية” المتمثلة في الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية. فالمساواة الشكلية أمام القانون لا تكفي إن لم تُصحَّح بيئات النشأة والفرص.
وقد شدّد عبد الله العروي في نقده للحداثة العربية على أنّ “المشاركة لا تكون حقيقية إلا إذا ارتكزت على شعور المواطن بأنه صاحب مصلحة وصوت وتأثير”. وهو ما يتناقض مع واقع تُصنع فيه القرارات في دوائر ضيّقة وتُقصى منها الأغلبية إمّا بالتجهيل أو بالإفقار أو بالتخويف.
_ خامساً: أشكال التمييز المقنّع في المجتمع المدني والدولة:
لم يعد التمييز يُمارَس عبر قوانين صريحة، بل من خلال بُنى اجتماعية وثقافية تُعيد إنتاجه، كما يرى بول ريكور. فالفرد قد يُقصى من منصب ما، لا لأن القانون يمنعه، بل لأن خلفيته الثقافية أو جنسه أو دينه أو طبقته الاجتماعية لا تتوافق مع “المنظومة غير المعلنة” للحكم أو النخبة.
لذلك، لا يكفي أن ينصّ الدستور على المساواة، بل لا بدّ من مراجعة الشروط غير المكتوبة التي تُقصي الكثيرين بلا مبرر معلن. وهذا ما دعا إليه المفكّر طه عبد الرحمن حين طالب بإعادة النظر في المفاهيم الحداثية من داخل شروط العدالة الروحية والثقافية، لا من داخل نموذج تقني فارغ من القيم.
في الختام: نحو إعادة تأسيس المواطنة على قاعدة العدالة الشاملة
المواطنة، في معناها الحقيقي، لا تبدأ من بطاقة الهوية، بل من عدالةٍ بنيوية تُعيد توزيع الثروة، وتكسر احتكار الامتياز، وتمكّن الجميع من الوصول المتكافئ إلى السلطة والمعرفة والكرامة. فالنضال من أجل المواطنة ليس سياسياً فحسب، بل هو نضال ضد بنى الفقر والتمييز والإقصاء البنيوي.
فلا معنى للمشاركة السياسية بلا عدالة اجتماعية، ولا قيمة لمبدأ “المساواة أمام القانون” إن ظلّ الواقع الاقتصادي والاجتماعي يعيد إنتاج التهميش. ومن هنا، فإن الواجب الفلسفي والاجتماعي هو إعادة تحرير مفهوم المواطنة من قبضة الامتيازات الطبقية والنخبوية، واستعادته كحقٍّ شامل يتجاوز مجرد الاعتراف القانوني إلى الممارسة الفعلية الكاملة.