المواطنة بين خطاب الحقوق وواقع الامتيازات: في نقد التفاوت الاجتماعي واستعادة المعنى السياسي للعدالة:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

 

في عالم تهيمن عليه الفجوات الطبقية واللامساواة الهيكلية، يبدو الحديث عن “المواطنة” وكأنه رفاه لغوي أو شعار سياسي مفارق للواقع، خصوصاً حين تُختزل في واجبات وطنية دون تمكين فعلي من الحقوق. لا يمكن تصور وجود حقيقي لمواطنة فاعلة في ظل استمرار الفقر البنيوي، وسوء توزيع الثروات، واحتكار فئة ضئيلة لامتيازات كاملة في مقابل حرمان الأغلبية، لا سيما من آليات المشاركة السياسية العادلة، وفرص تقلّد المناصب العامة. من هنا، تتداخل أبعاد الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي لطرح سؤال جوهري: هل يمكن الحديث عن المواطنة بلا عدالة اقتصادية واجتماعية؟
أولاً: المواطنة كمفهوم فلسفي يتجاوز الورق:
تُعرّف المواطنة في الأدبيات السياسية والفلسفية باعتبارها علاقة قانونية وأخلاقية بين الفرد والدولة، لكنها تتجاوز هذه العلاقة إلى كونها مشاركة حقيقية في الشأن العام، كما ذهب جان جاك روسو، حين رأى أن “المواطن لا يكون كذلك إلا إذا شارك في صناعة القوانين التي يخضع لها”. وهذا يفترض بالضرورة المساواة الفعلية، لا الصورية، في الحقوق والفرص.
إن مفهوم المواطنة عند الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت لا ينفصل عن الحق في الفعل السياسي العام، وهو ما يصبح مستحيلاً في حال الهيمنة الطبقية والاستئثار السلطوي. فالمواطنة ليست بطاقة هوية، بل قدرة واقعية على التأثير، وهو ما يُنتزع لا يُمنح.
ثانيًا: الفقر كعائق بنيوي أمام تحقق المواطنة:
يرى بيير بورديو أن الفقر لا يعني فقط نقصاً في المال، بل هو حرمان متعدد الأبعاد يشمل الرأسمال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهذا الحرمان يُنتج تهميشاً سياسياً تلقائياً. فالمحرومون من الثروة يُقصَون عادةً من دوائر القرار، ولا تُتاح لهم إمكانات المشاركة المؤثرة. وهذا ما يجعل المواطنة امتيازاً طبقياً لا حقاً عاماً.
أما (أمارتيا سن)، المفكر الاقتصادي والفيلسوف، فيربط بين الحرية والتنمية، ويؤكّد أن العدالة تتأسس على “القدرة الفعلية على تحقيق الخيارات”، أي أن الفرد الفقير لا يمتلك حرية الاختيار أصلاً، وبالتالي لا يمتلك شروط المشاركة السياسية التي تُعدّ ركيزة المواطنة.
ثالثًا: سوء توزيع الثروة كمصدر للتمييز الممنهج:
حين تُحتكر الثروة في يد نخبة ضئيلة، فإن ذلك ينتج تراتبية اجتماعية تُقنّن التمييز وإن بدا أنه غير موجود. هذا ما أشار إليه توماس بيكيتي في كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، حين كشف كيف يعيد تركّز الثروة إنتاج الطبقات العليا سياسياً وثقافياً، ويحدّ من إمكانيات الصعود الاجتماعي للأفراد من الطبقات الدنيا.

وهكذا، تصبح “المواطنة” في ظل هذا السياق محكومة بمبدأ غير معلن: من يملك، يحكم. في حين يُقصى أبناء الفئات المحرومة، ليس فقط من الثروة، بل من فرص التعليم والصحة والتأثير.
رابعًا: المشاركة والحق في المنصب العام بين المبدأ والواقع:
تُعدّ المساواة في تقلّد المناصب العامة إحدى الركائز الجوهرية للمواطنة، لكنها، كما يشير جون رولز في نظريته حول العدالة، ليست ممكنة إلا إذا تم تصحيح “اللاعدالة الأصلية” المتمثلة في الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية. فالمساواة الشكلية في القانون لا تكفي إذا لم تُصحّح بيئات النشأة والفرص.
لقد شدّد عبد الله العروي في نقده للحداثة العربية على أن “المشاركة لا تكون حقيقية إلا إذا ارتكزت على شعور المواطن بأنه صاحب مصلحة وصوت وتأثير”، وهو ما يتناقض مع واقع تُصنع فيه القرارات في دوائر ضيقة وتُقصى منها الأغلبية إما بالتجهيل أو بالإفقار أو بالتخويف.
خامسًا: أشكال التمييز المقنّع في المجتمع المدني والدولة:
إن التمييز، في الواقع، لم يعد يُمارَس عبر قوانين صريحة، بل من خلال بُنى اجتماعية وثقافية تُعيد إنتاجه، كما يرى بول ريكور. فالفرد قد يُقصى من منصبٍ ما لا لأن قانوناً يمنعه، بل لأن خلفيته الثقافية أو جنسه أو دينه أو طبقته الاجتماعية لا تتناسب مع “المنظومة غير المعلنة” للحكم أو النخبة.
وبذلك، لا يكفي أن ينصّ الدستور على المساواة؛ بل لا بد من مراجعة الشروط غير المكتوبة التي تُقصي الكثيرين دون مبرر معلن. وهذا ما دعا إليه المفكر طه عبد الرحمن حين طالب بمراجعة المفاهيم الحداثية من داخل شروط العدالة الروحية والثقافية، لا من داخل نموذج تقني فارغ من القيم.
في الختام : نحو إعادة تأسيس المواطنة على قاعدة العدالة الشاملة: المواطنة، في معناها الحقيقي، لا تبدأ من بطاقة الهوية، بل من العدالة البنيوية التي تُعيد توزيع الثروة، وتكسر احتكار الامتياز، وتُمكّن الجميع من الوصول المتكافئ إلى السلطة والمعرفة والكرامة. إن النضال من أجل المواطنة ليس نضالاً سياسياً فحسب، بل هو نضال ضد بنى الفقر، والتمييز، والإقصاء البنيوي.
فلا معنى للمشاركة السياسية بلا عدالة اجتماعية، ولا قيمة لمفهوم “المساواة أمام القانون” إذا بقي الواقع الاقتصادي والاجتماعي يعيد إنتاج التهميش. من هنا، فإنّ الواجب الفلسفي والاجتماعي هو إعادة تحرير مفهوم المواطنة من قبضة الامتيازات الطبقية والنخبوية، واستعادته كحق شامل يتجاوز مجرد الاعتراف القانوني، إلى الممارسة الفعلية الكاملة.