النقدُ الأدبيُّ ليس مجرّد نشاطٍ تابع للأدب أو انعكاسٍ لجدلياته، بل هو في عمقه فعلٌ حضاريّ تأسيسيّ، انبنى على جوهرٍ فلسفيّ متعلّق بمفهوم القيمة وهاجس المعيار. وإذا كان الأدبُ هو الابن الشرعيُّ للخيال المبدع، فإنّ النقد هو الضميرُ الحارسُ الذي يمنح النصّ بقاءه ويضمن له عبور الزمن، فالنصوص ليست خالدةً بذاتها بل بقدرتها على استدعاء قراءاتٍ وتأويلاتٍ متجدّدة.
لقد شدّد أفلاطون على ضرورة النظر إلى الأدب بوصفه ميدانًا يحمل خطراً وإمكانية معاً، لذا دعا إلى إخضاعه لمعيار أخلاقيّ يضبط أثره في النفس والمدينة. وعلى الضدّ من ذلك، جاء أرسطو في فن الشعر ليؤسّس أول ملامح النقد الجمالي، حيث لم يقيّم النصّ من زاوية أخلاقيته فقط، بل من زاوية بنائه وتماسكه، مُرسياً بذلك ثنائية القيمة والمعيار في النقد: قيمة جمالية معيارها الانسجام والانساق، وقيمة أخلاقية معيارها الأثر في المتلقّي.
ومع الفكر الحديث، تعمّقت إشكالية المعيار. فالنقد لم يعد محصوراً في محاكاة النموذج الأعلى، بل صار ـ كما أشار نيتشه ـ فعلاً يهدم القيم الجاهزة ليؤسّس قيماً جديدة. وهذا ما أكّده رولان بارت لاحقاً حين أعلن “موت المؤلِّف” ليحرّر النصّ من سلطة المعيار الخارجيّ، داعياً إلى أن يكون القارئ هو مركز القيمة. أمّا ت. س. إليوت فقد ذهب إلى أنّ النقد ليس تذوّقاً ذاتياً بقدر ما هو بحث عن “معيار موضوعيّ” يمكن أن يقيس به النصوص، وهو في ذلك يعيد صدى الحلم الأفلاطونيّ في صيغة حداثيّة.
النقد إذاً حركةٌ مزدوجة: تفكيك وبناء. فهو يفكّك سلطة النصوص والذوات، لكنه في الوقت نفسه يسعى لبناء جغرافيا جديدة للقيمة. من هنا يمكننا فهم مقولة غادامير في الحقيقة والمنهج: أن كلّ نقد هو تأويل، وكلّ تأويل هو محاولة لإدراك الحقيقة في بعدها التاريخيّ والتواصليّ. فلا معيار مطلق ثابت، بل معايير تتشكّل في الحوار بين النصّ والقارئ والزمن.
واللافت أنّ النقد الأدبي في ثقافتنا العربية ظلّ مشدوداً بين هاجس الأصالة وضرورات الحداثة. فقد انطلق قدامة بن جعفر من معيار “اللفظ والمعنى”، محاولاً تأسيس رؤية موضوعية للتفاضل بين النصوص. ثم جاء عبد القاهر الجرجاني بمفهوم “النظم”، ليجعل القيمة في علاقة البنية بالمعنى، وهو ما يذكّرنا ببدايات البنيوية الغربية. بينما رأى الجرجاني أنّ النصّ ليس مجموع ألفاظ بل شبكة علاقات، أدرك ياكوبسون ورفاقه بعد قرون أنّ الشعرية لا تقوم إلا على الانحراف المنظّم في اللغة.
اليوم، يجد النقد نفسه أمام مأزق جديد: مأزق التشتّت. فقد أدّى تفكّك المعايير في ما بعد الحداثة إلى أزمة في تحديد القيمة. فبين نقدٍ يتكئ على السياسة والهويّة، ونقدٍ يتوسّل التحليل النفسي، وآخر يذوب في التفكيك الدريدي، صار النصّ مرآةً تتكسّر فيها صور القرّاء أكثر مما تُعكس صورة المؤلّف. ومع ذلك، تبقى الحاجة إلى النقد ملحّة، إذ لا حضارة من دون وعي نقديّ.
إنّ النقد الأدبي ليس ترفاً بل شرطاً لوجود الأدب ذاته، وهو في جوهره استمرارٌ للحوار الإنسانيّ حول ما هو جدير بالخلود وما هو عابر. وإذا كان الإنسان ـ كما قال هايدغر ـ “الكائن الذي يسكن اللغة”، فإن النقد هو فعل السكنى الواعية، إذ يحوّل اللغة من مأوى صامت إلى فضاء تفكّر واشتباك.
وهكذا، فإنّ مستقبل النقد الأدبي مرهون بقدرته على إعادة إنتاج معيارٍ لا يَسحق التعدد، وعلى ابتكار قيم تُوازن بين الأصالة والحداثة، بين الذوق الفرديّ والذائقة الإنسانية. إنه مشروع حضاريّ بامتياز، لأنه يطرح دوماً السؤال الأعمق: أيّ نصّ يستحق أن يكون جزءاً من ذاكرة الإنسان؟