في صميم الفكر النقدي، يتبدّى النقد المونولوجي بوصفه انحرافاً عن جوهر الفعل النقدي الحقيقي، إذ يُختزل في صوتٍ واحدٍ مغلقٍ على ذاته، يدور في فلكها، ويستمدّ منها معناه ومشروعيته. فهو نقدٌ صادر عن عقلٍ منكفئٍ على ذاته، متحصّنٍ في قلاعٍ من الوثوقية واليقين، لا يسمع إلا صداه، ولا يرى إلا انعكاس صورته في مرآةٍ من الغرور المعرفي. وكأنّ صاحبه، كما قال نيتشه، “يحبّ الحقيقة لا لكونها حقّاً، بل لأنها تعكس ذاته في أنقى أشكالها.”
إنّ المونولوجية في النقد ليست مجرد خلل في المنهج، بل هي أزمة في بنية الوعي ذاته. فهي تنبثق من تصوّرٍ معرفيٍّ يقوم على دوغمائية العقل المطمئن إلى امتلاك الحقيقة، ورفض التداول والتفاعل بوصفهما شرطين للارتقاء الفكري. بهذا المعنى، يغدو الناقد المونولوجي أقرب إلى الكاهن منه إلى المفكر؛ يُقدّس نصّه ومقولاته كما تُقدَّس العقائد، ويستعيض عن الحوار بالتبجيل، وعن الجدل بالتحريم، وعن النقد بالوصاية.
وقد عبّر ميخائيل باختين عن هذا المأزق حين فرّق بين الخطاب المونولوجي والخطاب الحوارِي؛ فالأول قائم على صوتٍ واحدٍ لا يعترف بالآخر، أما الثاني فيتغذّى من تعدّد الأصوات وتفاعلها، حيث تُبنى الحقيقة لا على الهيمنة، بل على التداول الجدلي والتفاعل اللغوي والاجتماعي. في النقد المونولوجي، يختنق الفكر داخل ذاتٍ متضخّمة، فلا يتبقى من اللغة إلا رجع الصدى، ولا من المعنى إلا التكرار.
إنّ هذا النمط من النقد يقوم، كما يقول هابرماس، على “عقلٍ أداتيٍّ” يوظّف المعرفة لا للتفاهم، بل للهيمنة. فالعقل هنا ليس تواصلياً يسعى إلى الفهم المشترك، بل تسلّطيّاً يسعى إلى تثبيت موقع الذات المهيمنة التي تُعرّف الحقيقة بقدر ما تُخضع الآخر. ولعلّ هذا ما يجعل النقد المونولوجي فقداناً لوظيفته الاجتماعية والتاريخية، إذ يتحوّل إلى خطابٍ فوقيٍّ ينعزل عن الجماعة، ويفقد قدرته على الإسهام في بناء الوعي الجمعي.
على المستوى اللغوي، يُفضي هذا النمط من التفكير إلى جمود اللغة ذاتها، فبدلاً من أن تكون وسيلة للتعبير عن التفاعل الإنساني، تصبح أداة لتمجيد الذات. تتحوّل اللغة النقدية إلى مرآة لغرور صاحبها، متكلّسةً، مغلقة البنية، متعالية على التجربة الحية للنص وللقارئ. وهو ما يشير إليه فرديناند دي سوسير حين يؤكد أن اللغة ليست نظاماً مغلقاً بل كياناً تداولياً لا يستقيم إلا بوجود المتكلّم والمخاطَب معاً. في النقد المونولوجي يغيب المخاطَب تماماً، فلا يبقى سوى المتكلّم المأخوذ بسحر ذاته.
وفي بعدٍ أدبيٍّ أعمق، يمكن القول إنّ الناقد المونولوجي يعيش مأزق الطهرانية المعرفية، فهو لا يرى في الاختلاف ثراءً، بل تهديداً، ولا في الآخر مرآةً، بل خصماً. فالأنا عنده مركز الكون، والعالم يدور حول محور يقينه. وهذا ما يجعل خطابه أقرب إلى السلطة الرمزية منه إلى الحرية النقدية، إذ يمارس الإقصاء تحت شعار التمحيص، ويُخفي تسلّطه وراء أقنعة الموضوعية. كما لو أن فوكو يتحدث عنه حين قال إنّ كل خطابٍ يسعى إلى تنظيم الحقيقة إنما يسعى في الوقت ذاته إلى تنظيم السلطة.
وهكذا، فإنّ النقد المونولوجي لا ينتج معرفة، بل يعيد إنتاج نفسه، كمن يحرث في صحراءٍ من الكلمات، فلا يثمر إلا العقم. بينما النقد الحقيقي، في جوهره، فعل تحاوريّ وتداوليّ، لا يتحقق إلا بالانفتاح على تعدّد الأصوات، واحترام نسبية المعنى، والإيمان بأنّ الحقيقة ليست ملكاً لأحد، بل هي ثمرةُ لقاءٍ بين الذوات كما بين العقول.
إنّ تجاوز المونولوجية النقدية لا يتمّ إلا بالعودة إلى روح الحوار الفلسفي التي بشّر بها سقراط وجعل منها جوهر الفلسفة ذاتها، وبالتحرّر من عبادة الأنا، وإدراك أن الفكر لا يحيا إلا في المشاركة. فحين يتخلّى الناقد عن دور الكاهن، ويستعيد دور المحاور، يصبح النقد فعلاً معرفياً خلاّقاً، لا مرآةً مكرورة لذاتٍ مأزومة.
خاتمة:
النقد المونولوجي هو انكفاء الذات على مراياها حتى العمى، ورفضها الإصغاء إلى الأصوات الأخرى التي تشكّل شرط وجودها. إنّه تجسيدٌ للعزلة الفكرية التي تعيد إنتاج الجهل في ثياب المعرفة. أمّا النقد الحقّ، فهو انفتاحٌ دائمٌ على الآخر، وحوارٌ لا ينتهي بين الذوات، لأنّ الحقيقة — كما قال غادامير — لا تُملك، بل تُتشارك.
* عماد خالد رحمة – كاتب ومفكر عربي مقيم في برلين، يهتم بقضايا النهضة، والفكر النقدي، والعلاقة بين الوعي الجمعي والتحوّلات الثقافية في العالم العربي. يكتب بلغة تحليلية تتقاطع فيها الفلسفة مع الاجتماع والفكر الإنساني، باحثًا عن جذور الأزمات الحضارية وآفاق التغيير الممكن.