كم من الأرواح تمضي في الحياة كأنها لم تكن…!
وكم من الشعوب تمُرُّ على صفحات الزمن بلا أثر، كأنّها محض صدى …!
ليس لأنهم بلا قيمة، بل لأنهم لم يُدركوا لحظتهم، ولم ينتزعوا مكانهم كما يليقُ بهم.
أن تكون على الهامش، معناه أن تكتب على الرمل، أن تذوب في ليلٍ بلا قمر،
أن تظلّ تائهًا في الحلم، فيما الآخرون يصنعون الواقع…
ليس أشدّ قسوةً على الفرد أو الجماعة من أن يجد نفسه على هامش التاريخ؛ مجرد ظلٍ عابر بعد مغيب الشمس، أو شبحٍ يسير في ظلال غيره، فاقدًا للهوية والدور. تلك هي مأساة الشعوب التي فقدت زمام المبادرة، ورضيت بالتلقي بدل الفعل، وبالغياب بدل الحضور.
في عالمٍ تتشكل فيه المعادلات بلا رحمة، وتُرسم فيه الجغرافيا السياسية بأدوات القوة والمصالح، لا مكان للمترددين، ولا دور للمنتظرين. من لم ينتزع موقعه بجدارة، يُطوى اسمه في زوايا النسيان، وتُروى الحكايات من دونه.
وتأخذ القضية الفلسطينية في هذا السياق موقعًا خاصًا، فهي لم تغب يومًا عن وجدان الأحرار، ولم تكن هامشًا في ضمير الزمن، لكنها كثيرًا ما وُوجهت بمخططات الإقصاء، ومحاولات التهميش، لا بسبب وهنٍ فيها، بل نتيجة لتكالب قوى الهيمنة، ولتشتّت بعض الجهود والخيارات داخل صفوفها.
لقد قدّم الشعب الفلسطيني نموذجًا فريدًا في الصمود والتضحية، لكنه ما زال يُطالب بقيادةٍ جامعة، وخطابٍ موحدٍ، ومشروعٍ تحرري واضح المعالم، لا يخضع لمساومات اللحظة، ولا يرتضي بدور المُدار من الخارج. لم تكن المشكلة في عدالة القضية، بل في أدوات التعبير عنها، وفي بعض من اختزلوا التمثيل وضيّقوا أفق الفعل.
إنّ حضور فلسطين في قلب العالم، وفي ضمير الإنسانية، هو حضورٌ لا يحتاج لمن يُبرّره، لكنه يحتاج لمن يُفعّله، ويحرّره من الارتهان، ويعيد له بوصلته نحو التحرير والكرامة.
الفرصة لا تزال سانحة.
فاللحظات الفاصلة لا تُمنح، بل تُغتنم.
ولحظة المراجعة الآن باتت ضرورة وطنية وأخلاقية، تعني أن نُعيد التفكير في أدوات النضال، في وحدة الصف، في صياغة المشروع الوطني التحرري المستقل، بعيدًا عن الارتهان للمحاور أو المانحين أو الأوهام.
فلسطين لا تقبل القسمة ولا القعود، ولا يُمكن أن تعود بغير الفعل الجمعي الراسخ بالإيمان واليقين. من أراد الخروج من الظل، فعليه أن يتحمل شمس المواجهة، وأن يخوض معركة الوعي والبناء والتحرير.
خذ مكانك كما يجب… كإنسانٍ حر، وكشعبٍ مقاوم، وكقضيةٍ لا تموت.
