الواقعية السياسية العربية أمام العقلية الترامبية

حميد قرمان
حميد قرمان

لم تمر القضية الفلسطينية بمنعطف وجودي خطير عبر تاريخها الممتد منذ أكثر من سبعة عقود كما تمر به اليوم، منعطف بدأ بقرار غير محسوب النتائج، يتصف بالرعونة السياسية والعسكرية، جلب تداعيات وارتدادات؛ أخرجت سياق الصراع عمّا كانت المنطقة محددة بسقوفه.

الشرق الأوسط يتعرض لموجات سياسية هائجة نتيجة الحرب بين إيران ومحورها وإسرائيل، وهو مقبل على عواصف ترامبية ستقتلع أفكارا وأيديولوجيات وميليشيات، وستتجاوز دولا وشعوبا، وهناك من بدأ بتغيير لغته الدبلوماسية بل هناك من يبحث بانتهازية عن فرصة للتقارب مع الإدارة الأميركية دون أن يُلذع من ارتجالية قراراتها ومزاجية أهواء رئيسها، وهناك من يسعى بجدية إلى الاستقرار، ويقدم المقاربات التي تدفع بالمنطقة نحو النهوض من خلال شراكة حقيقية قائمة على دعائم سياسية واقتصادية تصل بالشعوب إلى تعايش حقيقي بعيدا عن ويلات الحروب التي أرهقت الشرق الأوسط.

مسرح الأحداث في الشرق الأوسط عاث به مؤخرا لاعبون ذوو أفكار وأيديولوجيات يمينية راهنت على مقارباتها بأنها الثابت الوحيد الباقي في معادلات مستقبل المنطقة؛ رهان يحتاج إلى تعاطي سياسي يعيد ترتيب وقائع مجريات هذا العبث للعودة إلى النهوض والارتقاء بحياة الشعوب تحت عنوان واحد فقط؛ السلام العادل والشامل دون الغرق في شعبويات غوغائية ساقت المنطقة إلى منزلق أضحى من الصعب الخروج منه دون تقديم أثمان مرتفعة.

قبل عام كتبت في صحيفة “العرب” اللندنية مقالا بعنوان: “طوق نجاة سعودي للمنطقة”، ومن ثم كتب بعد عدة شهور مقالا آخر بعنوان: “السعودية تهيئ لمعركة دبلوماسية كبرى”، وهو ما نشهده اليوم، فبعد المؤتمر الصحفي الصادم لرئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أصدرت الدبلوماسية السعودية موقفا عبّرت عنه ببيان صحفي؛ يحدد مسار مستقبل المنطقة من منظور عربي أولا، وأممي ثانيا.. من خلال تشكيلها لتحالف دولي لتثبيت وتنفيذ حل الدولتين، مسار قادر على فرض رؤيته لحل الصراع بأدوات قائمة على مقاربة سياسية واقعية تسهم في تعزيز مفاهيم الاستقرار المطلوب لدفع عجلة التنمية والازدهار في المنطقة والعالم.

الموقف السعودي القوي ليس مصلحة عربية فقط بل مصلحة دولية، وهو ما انعكس في بيانات الرفض لتصريحات ترامب، وأعطى زخما للموقفين الأردني والمصري؛ اللذين يحتاجان إلى تدرج الدبلوماسية السعودية وأدواتها في خلق هامش سياسي لصد ما يريد فرضه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خاصة وأن ترامب لن يستطيع إدارة ظهره لمثلث الدول العربية؛ المملكة العربية السعودية والأردن ومصر، فهو الذي يحتاج الرياض وليس العكس.

المرونة السياسية هي المطلوبة، بالنظر إلى أغلب المبادرات السياسية السابقة؛ ونرى تجلي الدبلوماسية السعودية في قيادة المنطقة رغم التضاد الذي حاولت الأجندات الإيرانية تسويقه في بعض عواصم عربية أو الهروب الإسرائيلي الدؤوب من استحقاقات العملية السلمية غير مكتملة الأركان منذ توقيع اتفاق أوسلو.

المرونة أصبحت تتضح في مواقف ومناهج دول في المنطقة؛ وهو ما شهدناه في التعاطي الأردني من خلال تصريحات الملك عبدالله الثاني في البيت الأبيض، وهو لا ينم فقط عن مرونة، بل عن فهم عميق لواقع المنطقة بعد نتائج حرب السابع من أكتوبر دون الصدام مع إدارة أميركية مغمورة بنشوة إعطاء الأوامر، حيث كان جليا رمي الكرة في ملعب العرب من خلال تأكيده على أن هناك مشروعا عربيا قيد التكوين ردا على الطرح الأميركي.

فلسطينيا كانت هناك مرونة محقة؛ حيث أصدر الرئيس الفلسطيني مرسوما بتوقيت هام، يخدم مساعي الدبلوماسية العربية بقيادة المملكة العربية السعودية والأردن ومصر، مرسوم يحوّل رواتب الأسرى وأهالي الشهداء الفلسطينيين إلى إحدى المؤسسات المعنية بالتمكين الاقتصادي لشرائح المجتمع الفلسطيني، وهو التفاف استدراكي على مطلب أميركي – إسرائيلي، سبب أزمة مالية هائلة للسلطة من خلال عقوبات فرضتها إسرائيل على أموالها من جهة، ومن جهة أخرى جعلت واشنطن تمنع وصول المساعدات والمنح المالية لها، مما أثر على التزامات السلطة الفلسطينية في دفع رواتب موظفيها وتقديم الخدمات.

مرسوم الرئيس الفلسطيني خطوة تنم عن واقعية سياسية مطلوبة لكسر بعض المحرمات في الوطنية الفلسطينية، وتقديمه قربانا للإدارة الأميركية، خاصة وأن الشعب الفلسطيني أمام مرحلة حرجة تتطلب منه الانحناء قليلا أمام عواصف ترامبية تريد اقتلاعه من أرضه، تحديدا وإن فرص العودة إلى الحرب باتت مرتفعة باستمرار حماقات سياسية ما زالت حركة حماس تصر على افتعالها، في لحظة سياسية فارقة لا تتطلب استخدام لغة التهديد والوعيد، أو العودة إلى استعمال أساليب ضغط بالية.

مجددا، الثابت الحقيقي في المعادلة السياسية في الشرق الأوسط، عدم قدرة ترامب إدارة ظهره لمثلث الدول العربية، السعودية والأردن ومصر، تحديدا إنه لن يستطيع التماهي الكامل مع اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو دون مراعاة تعقيدات فترته الرئاسية التي ستشهد ملفات دولية ساخنة تحتاج إلى دعم وتأييد هذه المثلث العربي المؤثر في مسرح السياسة الدولية.

وهو منطلق يتطلب مد العرب بأوراق فلسطينية فاعلة تسهم بخلق هامش مناورة سياسي يتيح الوصول إلى اتفاق سلام حقيقي مع إدارة أميركية قادرة على فرضه بجعل جميع الأطراف يلتقون في منتصف الطريق وفقا للعبة المصالح التي يفهمها رجل الصفقات الذي أصبح رئيسا.

عن العرب اللندنية

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً