من التدخل إلى التحوّل الاستراتيجي:
الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط لم يكن ثابتًا في تموضعه أو مواقعه يوماً؛ فمنذ التدخل المباشر في العراق عام 2003، والضربات الجوية ضد القاعدة في اليمن، والدعم اللوجستي للسعودية في اليمن، وصولًا إلى الانتشار التكتيكي في سوريا والعراق في سياق الحرب على داعش، تميّز هذا الوجود بالتغيّر المستمرّ تبعًا لأولويات السياسة الخارجية الأمريكية وتغيّر الإدارات في واشنطن.
اليومَ، ومع مطلع عام 2025، يشهد هذا الوجود نقاشًا داخليًا مكثفًا بين من يدعو إلى تقليص الانخراط المباشر في النزاعات الإقليمية، ومن يرى أنّ إعادة التمركز والحضور الرمزي المدروس ضرورة استراتيجية لمنع فراغ أمني قد تملؤه قوىً إقليمية أو جماعات متطرّفة.
الوجود الأمريكي في شمال وشرق سوريا: موقع حسّاس في معادلة معقّدة
لا يمكن فهم الوجود الأمريكي في شمال وشرق سوريا من زاوية عسكرية فقط، فهو يرتبط أيضًا باعتبارات سياسية وأمنية وإنسانية؛ فعلى مدى السنوات الماضية، لعبت القوات الأمريكية دورًا محوريًا في دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مواجهة تنظيم “داعش”، ومنعت في الوقت نفسه القوى الإقليمية – خصوصًا تركيا وإيران – من بسط نفوذها الكامل على هذا الحيّز الجغرافي الغنيّ بالموارد والمتنوّع إثنيًا وسياسيًا.
الانسحاب الجزئي أو تخفيض عدد القوات، وإن لم يكن انسحابًا شاملاً، يطرح سؤالًا جوهريًا: ما الهدف الأمريكي اليوم؟ هل هو استمرار احتواء داعش أم تقليص التكاليف العسكرية والبشرية أم هو تمهيد لتحوّل سياسي جديد في سوريا يُراد له أن يكون بوساطة أمريكية غير مباشرة؟
خطر داعش: ما زال قائمًا رغم انهيار “الخلافة”
أحد أهم المبرّرات المعلنة للوجود الأمريكي في سوريا هو منع عودة تنظيم داعش، لا بوصفه مجرّد جماعة إرهابية، بل كظاهرة سياسية وعقائدية تجد في الفوضى والفراغ الأمني تربة خصبة للانتشار. ومع وجود الآلاف من مقاتلي التنظيم المعتقلين في سجون قسد، وداخل مخيّمات مكتظّة بعائلاتهم، وتراجع الاهتمام الدولي بتأهيل هؤلاء أو محاكمتهم، فإنّ خطر الانبعاث الإرهابي لا يزال حاضرًا بقوة.
الانسحاب الأمريكي في هذه المرحلة، دون ترتيبات أمنية وسياسية بديلة، قد يفتح الباب أمام عودة التنظيم بأساليب جديدة، أكثر سرّية ولامركزية، وقد يستثمر النزاعات المحلّية والعابرة للحدود لإعادة إنتاج نفسه.
بين القوى الإقليمية والفراغ السياسي: ما مصير المنطقة؟
تعيش منطقة شمال وشرق سوريا في ظل توازنات دقيقة؛ فالادارة السورية تسعى لاستعادة السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، مدعومًا من تركيا ودول عربية، وتركيا تراقب عن كثب أي محاولة لتقوية الإدارة الذاتية في المنطقة، وتشنّ ضربات متكرّرة ضد ما تسمّيه “امتدادات حزب العمال الكردستاني”. وفي ظل هذا المشهد، كان الوجود الأمريكي عامل توازن – أو على الأقل “رادع” نسبيّ لأي حسم عسكري أحادي الجانب.
غياب هذا التوازن قد يعيد خلط الأوراق من جديد، ويدفع القوى المحلية للدخول في مواجهات مفتوحة، أو البحث عن حمايات خارجية جديدة، ما يزيد من تعقيد المشهد السوري بدلًا من دفعه نحو التسوية.
الحل السياسي الشامل: ضرورة لا ترف سياسي
مع نهاية عام 2024 وبداية 2025، بدأت ترتسم ملامح جديدة في المشهد السوري: تصاعد الأصوات المنادية بمرحلة انتقالية فعلية، تغيير في بنية الحكم، نقاشات دولية حول إعادة الإعمار، وحوارات محلية حول اللامركزية والتمثيل العادل للمكونات.
في هذا السياق؛ يصبح الدور الأمريكي غير العسكري مهمًا بقدر الدور العسكري – إن لم يكن أكثر؛ فدعم عملية سياسية واقعية، تقوم على الاعتراف بالتنوّع السوري، وضمان حقوق العرب والكرد والسريان وباقي المكونات، ودفع المسار الأممي نحو تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، كلّها خطوات حاسمة في تجنّب عودة الفوضى.
الانسحاب العسكري، إن لم يكن مترافقًا مع تحرّك دبلوماسي نشط ومشروع سياسي حقيقي، قد يتحوّل من استراتيجية إلى مغامرة غير محسوبة.
أي مستقبل للدور الأمريكي في سوريا؟
الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة، ليس بالضرورة أن تكون نهاية، بل إعادة تعريف للدور، فبدلًا من السيطرة المباشرة أو الحضور الثقيل، تسعى واشنطن نحو شراكات ذكية، وتدخّلات مرنة، وتوازنات محسوبة.
وفي الحالة السورية، قد يكون الانسحاب الكامل بمثابة فكّ ضغط في لحظة تحتاج إلى رعاية، وقد يكون إعادة التموضع فرصة للضغط باتجاه تسوية عادلة… شرطَ ألّا تملأ فراغه قوىً تغذّي الاستبداد أو التطرّف.
مركز روج آفا