الوعي بين الكينونة والمادة: الإنسان كجسرٍ بين الأرض والسماء:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

ليس الوعي حادثاً طارئاً في الوجود الإنساني، بل هو الامتداد الحيويّ للكينونة ذاتها؛ إذ لا تنفصل الكينونة عن الوعي إلا كما ينفصل الضوء عن مصدره في الظاهر لا في الجوهر. فالإنسان كائنٌ ينهض على تداخلٍ معقّد بين الماديّ والروحيّ، بين الأرضيّ والسماويّ، بين ما يُدرك بالحسّ وما يُتذوّق بالبصيرة. منذ لحظة التكوين الأولى، يوم كان الإنسان جنيناً في رحم أمّه، بدأت بذور الوعي في التشكّل، لا كفكرٍ منطقيّ بعد، بل كاستجابة حيّة لما يؤثّر فيه من الخارج؛ جوع، خوف، دفء، ألم، وطمأنينة. من هنا كانت الكينونة هي الظاهرة الأولى للذات، والوعي ليس إلا لغتها المتطورة التي تعبّر بها عن وجودها
أولًا: الكينونة بوصفها الأصل الأول للوعي:
تسبق الكينونةُ الوعيَ بثلاث مراحل كما تقول الفكرة، لأن الوعي لا يولد إلا حينما تنضج الكينونة في علاقتها بذاتها وبالعالم. فالإنسان، كما يصفه مارتن هايدغر، هو “الكيان الذي يُسائل وجوده”، أي أنّ وعيه ليس مجرّد إدراكٍ لما حوله، بل تأمّلٌ في كينونته ذاتها. وبهذا المعنى، فإنّ الوعي هو فعل الانكشاف الذي تُمارسه الكينونة لتتعرف إلى ذاتها من خلال العالم.
يقول هيغل في فينومينولوجيا الروح إن الوعي يمرّ بمراحل تطور تبدأ من الإحساس وتنتهي إلى العقل المطلق، أي إلى لحظة إدراك الذات لذاتها كروحٍ كلّية. وهذه المراحل هي التي تجسّد حركة الكينونة وهي تعبر من الغموض إلى الوضوح، ومن الانفعال إلى الفعل. فالوعي إذن ليس ثمرةً جاهزة، بل صيرورة دائمة التكوّن.
ثانياً: الوعي المزدوج – بين المادي والحسّي.
يتبدّى الوعي أولاً في صورةٍ مزدوجة: وعي الجسد بما يحتاج إليه، ووعي النفس بما تشعر به. فالطفل حين يبكي، كما ذكرت الفكرة الأصلية، إنّما يُعبّر عن استجابة وعيٍ فطريّ غائرٍ في خلايا الجسد ومتّصل بالعقل الذي سيصير لاحقاً سيدَ الكيان. هذا التلازم بين الماديّ والحسّيّ هو ما جعل هنري برغسون يرى في الإنسان “حيواناً ذا ذاكرة”، لأن الوعي في جوهره استمراريةٌ زمنية تحفظ التجربة وتعيد توظيفها.
أما ديكارت، فحين قال عبارته الشهيرة: أنا أفكر، إذن أنا موجود، فقد جعل الوعي أصل الوجود لا نتيجته، غير أن الفكرة التي نحن بصددها تعيد ترتيب المعادلة: الكينونة تسبق الوعي لأنها الحاضنة الأولى التي منها ينبثق الفكر، فـ”أنا موجود، إذن سأفكر”، وهذه هي المقولة التي تليق بالإنسان في طور تخلّقه الوجوديّ.

-ثالثًا: الوعي كوعاء معرفي وذاكرة وجودية.
الوعي هو الوعاء الذي تخزن فيه النفس تجاربها ومعارفها وأحكامها، ليعود إليه الإنسان كلّما احتاج إلى استدعاء المعنى أو اتخاذ القرار. إنّه المستودع الذي يفرز المعلومات ويصنّفها وفق منظوماتٍ متداخلة: دينية، أخلاقية، علمية، وجدانية. وهنا يلتقي الفكر الفلسفي الحديث مع نظريات كارل يونغ في اللاوعي الجمعي، حيث يرى أنّ الإنسان يحمل في أعماقه صوراً وأفكاراً موروثة تتفاعل مع وعيه الفردي لتشكّل سلوكه. فالوعي ليس فرديّاً خالصاً، بل هو مزيج من الذاتيّ والموروث، من التجربة الحاضرة وذاكرة النوع الإنسانيّ.
-رابعاً: الإنسان بين الأرض والسماء.
يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: “الإنسان الكامل هو الواسطة بين الحقّ والخلق”. وهذه العبارة تختصر الثنائية الوجودية التي تقوم عليها الفكرة: الإنسان مخلوق أرضيّ في جسده، سماويّ في روحه، ومكلّفٌ بأن يوازن بينهما. فكلّ انحرافٍ نحو أحد القطبين يُفقده توازنه الوجوديّ.
فإذا استسلم الإنسان للماديّة، صار عبدًا لحاجاته وغرائزه، وإذا أغرق في الروحانية بمعزل عن الجسد، صار كائنًا منقطعًا عن واقعه. لذلك يظلّ العقل هو الجسر الذي يربط بين الأرض والسماء في كيان الإنسان، وهو الموجّه الأعلى الذي يحوّل الانفعال إلى فعل، والفكرة إلى نية، والنية إلى إرادة، كما أشار النص الأصلي.
-خامساً: الوعي والإرادة – من الخاطرة إلى الفعل.
تبدأ الإرادة من فكرةٍ صغيرةٍ تومض في النفس كخاطرة، ثمّ تتحوّل إلى نيةٍ حين تستسيغها الذات، فإذا اكتملت شروطها العقلية والنفسية، صارت مرادًا يسعى الجسد إلى تحقيقه. هذه السلسلة الدقيقة من التحوّل الوجداني والمعرفي هي ما يجعل الإنسان كائنًا واعيًا بالفعل، لا بالفعل الحيوانيّ الغريزيّ.
وهنا نلتقي مع إيمانويل كانط حين يرى أنّ الإرادة الحرة هي التعبير الأسمى عن الوعي الأخلاقيّ، لأنّ الإنسان العاقل لا يفعل إلا ما يدركه بوصفه خيرًا من خلال حكم العقل. الوعي، في هذا المنظور، ليس مجرد معرفة، بل قدرة على الاختيار، أي مسؤولية تجاه الذات والعالم.
سادساً: تفاعل الوعي والبيئة.
الإنسان لا يعي في فراغ، بل ضمن شبكة من المؤثرات البيئية والثقافية والاجتماعية. فكل ما يُملى على الجسد والنفس من حاجاتٍ وضروراتٍ يمرّ عبر قنوات الإدراك الحسيّ والعقليّ، ثمّ يُعاد تنظيمه داخل منظومة الوعي. لذلك فإنّ تربية الوعي ليست ترفًا فكريًّا، بل هي فعل حضاريّ أساسيّ. فكما يقول مالك بن نبي: “الوعي هو الشرط الأول لقيام الحضارة، لأنّ الأمم لا تنهض إلا حين تعي ذاتها ومشكلاتها”.
-خاتمة:
إنّ الوعي ليس مجرد أداةٍ للفهم، بل هو كينونةٌ تتفتّح في الإنسان عبر الزمن، تنمو بنموّ جسده وتتهذّب بنضج روحه. هو الجسر الذي يربط بين المادة والروح، بين الأرض والسماء، بين الخاطرة والفعل، بين الغريزة والضمير. والإنسان، في جوهره، مشروع وعيٍ لا يكتمل إلا بقدر ما يوفّق بين هذين البعدين: أن يبقى أرضيًّا في جسده، سماويًّا في روحه، عاقلًا في اختياره، حرًّا في إرادته، وفاعلًا في تاريخه.