الوعي: سفر الروح بين ظلمة العادة ونور الحقيقة:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

 

الوعي ليس زخرفاً لغويّاً، ولا زينةً يتزيّن بها المثقف في محافل الكلام، بل هو كما قال كانط: «الوعي بالذات هو الشرط الأقصى لكل معرفة». إنّه إدراكٌ يخرج بالإنسان من طور التلقين إلى مقام التساؤل، ومن أسر العادة إلى فضاء الحرية. فالوعي لا يُستعار ولا يُشترى، بل يُنتزع انتزاعاً كما يُنتزع النور من جوف الظلمة، ولا يُنال إلا بالمكابدة والتأمل والصبر على الأسئلة التي لا تهدأ.
لقد ميّز ديكارت الإنسان بقدرته على القول: «أنا أفكّر إذن أنا موجود»، فجعل الوعي أصلًا للوجود ذاته. أمّا هوسرل، فقد رأى فيه عودةً إلى الأشياء ذاتها، عودةً تكشف جوهر الظواهر كما هي، بلا أقنعة ولا أوهام. بينما يذكّرنا هايدغر بأنّ الوعي ليس مجرّد تفكيرٍ في الأشياء، بل انكشاف الوجود للإنسان في أعمق مستوياته، إذ الإنسان كائنٌ منفتح على الوجود.
وعلى ضفاف التراث العربي، نجد الكندي يصف الفلسفة بأنّها «محبّة الحكمة»، وما الحكمة إلا ثمرة وعيٍ متجذّر في السؤال والبحث. ويذكّرنا أبو حامد الغزالي بأنّ من لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بقي في عماء التقليد. وهذا ما عبّر عنه أدونيس في عصرنا الحديث حين رأى أنّ الفكر العربي لا ينهض إلا بوعيٍ نقديّ يكسر الأصنام ويعيد للعقل دوره المؤسِّس.
الوعي، إذاً، ليس تكديساً للمحفوظات، ولا اجتراراً للموروث، بل هو فعل انفتاحٍ وحرية. هو «إرادة المعرفة» بتعبير ميشيل فوكو، التي لا تقبل الاستسلام لسلطة الخطاب الواحد، بل تفتّش دائماً عن المسكوت عنه والمقموع. وهو أيضاً، عند باولو فريري، طريق التحرّر من «ثقافة الصمت»، حيث يتحوّل الإنسان من كائن مفعولٍ به إلى ذاتٍ فاعلة.
في جوهره، الوعي يقظة القلب حين يغفو العقل في أسر العادة، كما هو صرخة الروح حين تحاصرها قيود الواقع. هو النار التي تُضيء عتمة السؤال، والماء الذي يطهّر النفس من أوهامها. بغيره، يعيش الإنسان كما وصف نيتشه: «قطيعاً ينساق بلا بصيرة»، وبحضوره، يتجاوز ذاته نحو أفقٍ أرحب من الحرية والمعنى.
أيّها السائر في دروب الحياة، إن لم تقتنص لحظتك الواعية ضاعت حياتك في صخب العادة. الوعي هو ميلادٌ يوميّ، لا يشرق من الشمس بل من الداخل، من جهد العقل وصبر القلب. فمن لم يذق مرارة السؤال لن يتذوّق حلاوة الحقيقة، ومن لم يكابد الطريق لن يبلغ فجر الرؤية.
إنّ الوعي حياةٌ ثانية تُمنح لنا قبل أن ينطفئ العمر، وبعثٌ آخر قبل الموت. فمن حُرم الوعي عاش غريباً في نفسه، ومن وهبه الله نور الوعي عاش خالداً في أثره، وإن غاب جسده عن الدنيا.