الولاء الحربي غلب الكفاءة… والنتيجة مجتمع مشوَّه

د.مروان الآغا- غزة

كثيرًا ما أحدّث نفسي: قبل الحرب، كانت جامعاتنا تخرّج أفواجًا من طلبة البكالوريوس والدراسات العليا، وتناقش رسائل علمية في مجالات التربية وعلم النفس، وإدارة الأزمات والكوارث، والتاريخ والاجتماع والسياسة والدبلوماسية والتفاوض… الخ كما أنتجت دراسات معمقة حول الصهيونية وأطماعها في المنطقة، وأبحاثًا في الاقتصاد والأسعار والبدائل الاقتصادية في ظل الأزمات، وأيضًا في الأمن العام ومكافحة الإرهاب، والشريعة والقانون، وغيرها من المجالات.
كان لدينا خطباء منابر، وحلقات تحفيظ للقرآن الكريم، ومخيمات صيفية لبناء جيلٍ سوي، ومؤتمرات علمية تناولت ظروف غزة تحت الحصار والاحتلال. كما نشطت مراكز بحثية عديدة في تقدير المواقف وصياغة الرؤى.
لكن السؤال الجوهري: أين ذهب كل ذلك؟
لقد أثبتت الحرب التي تعرض لها قطاع غزة وما زال يتعرض لها أننا لم نستفد من كل هذه الدراسات والأبحاث والدرجات العلمية والوعّاظ والباحثين. فالمجتمع انكشف، وبانت عيوبه، واتضح أنه مليء بالعُقد والانحرافات. لأننا رضينا أن يقود المجتمع أشخاص بدرجات علمية متدنية أو حتى معدومة، وسمحنا بأن يُقدَّم سجناء سابقون على أنهم الأكثر حرصًا وفهمًا وحكمة، ورضينا أن تتصدر الوزارات والحكومات وجوه اختيرت على أساس الولاء للحزب لا على أساس التخصص والخبرة.
حتى الأجهزة الأمنية ومعظم منتسبيها جرى تعيينهم وفق الولاء الحزبي، بتخصصات لا تمت بصلة لطبيعة عملهم. وهكذا بتنا في واد، بينما التخصص والعلوم والكفاءة والتميز في واد آخر.
واحياناً ايضاً اتسائل اين أوائل الثانوية العامة عبر السنين السابقة؟ وهل كان منهم السياسيون والوزراء وقادة الاحزاب والمؤسسات العامة وقادة الرأي ؟
لقد جاءت الحرب لتكشف كل هذه التشوهات بوضوح.
ان الجامعات بقيت مفصولة عن المجتمع، والمساجد التي كان يفترض أن تبقى بيوت الله ومنابر وحدة وإصلاح، تحولت إلى ساحات صراع حزبي ومكاتب تنظيمية. أما المسؤولون فغرقوا في الغرور، يتوهمون أنهم فوق النقد والمحاسبة، في حين أن النخب الأكاديمية والاجتماعية غابت وإن حضرت فقط تؤدي دور التسحيج والتملق، فامتلأ المسؤول غرورًا، وأُشبع نقصه النفسي بالمديح الزائف، حتى تمادى في غيه وعنجهيته.
الحقيقة أن الجهل يهدم بيوت العز والكرم والأوطان، وقد كان الجهل وتضخيم الرأي والغرور سببًا رئيسيًا في هدم غزة وتشويه مجتمعها من الداخل، وجلب احتلال مجرم دموي بشع.
لقد غابت المحاسبة والتقييم الدوري عن كل مؤسساتنا، أننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى:
• مؤسسات مهنية متخصصة تُدار بالكفاءات لا بالولاءات.
• آليات متابعة وتقييم دوري وشفاف ومحاسبة وفق معايير عادلة.
• إحياء دور النخب الحرة والضمائر الصادقة.
فإن أردنا مستقبلًا أفضل، فلا مفر من إصلاح جذري حقيقي يعيد الاعتبار للعلم والكفاءة، ويضع حدًا لعصر الاستزلام والتحزب الضيق، ويمنح المجتمع فرصة لينهض من جديد.