انتصار من دم؟ الحقيقة العارية خلف وهم النصر في غزة وفضيحة إعلام الجزيرة”

بن معمر الحاج عيسى

 

منذ السابع من أكتوبر، تحولت غزة إلى مسرح مأساوي لصراع غير متكافئ، دفعت فيه الأرواح البريئة الثمن الباهظ، فيما تولى إعلام حماس والإخوان مهمة تزيين الكارثة وتصديرها كـ”ملحمة نصر”. وفي قلب هذه الماكينة الدعائية، وقفت قناة الجزيرة، لا كوسيلة إعلامية تنقل الحقيقة، بل كأداة تلاعب ممنهج بالوعي، تخلت عن حيادها المزعوم لتصبح بوقاً يضخ خطاباً أيديولوجياً يخدم مشروعاً سياسياً عابر للحدود، عنوانه الكبير “المقاومة” وجوهره الحقيقي “المقامرة بالشعوب”. الجزيرة لم تكتفِ بنقل صور الضحايا والدمار، بل أعادت صياغتها في إطار “الإنجاز التاريخي”، فأقنعت ملايين المشاهدين أن ما يحدث في غزة نصر مؤزر لا هزيمة دامية، وأن آلاف القتلى والمشردين مجرد “ثمن مشروع” في سبيل الوهم.

منذ الساعات الأولى للهجوم، سارعت الجزيرة إلى ضخ عناوين براقة من قبيل “المقاومة تحقق اختراقاً غير مسبوق” و”غزة تكتب تاريخاً جديداً”، رافعة سقف التوقعات لدى الرأي العام العربي والإسلامي، ومقدمة الهجوم كحدث سيغير موازين القوى. لكنها تجاهلت – عن قصد – أن هذا الفعل استجلب حرباً شاملة كان نتيجتها آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى وملايين النازحين، وأنه لم يغير شيئاً من قواعد اللعبة السياسية. ثم مع تصاعد الحرب، ركزت القناة على صور المجازر والدمار، وهو أمر صحيح إنسانياً، لكنها ألبسته ثوب “الانتصار”، إذ لم تضع المأساة في إطارها الطبيعي ككارثة إنسانية ناتجة عن مقامرة غير محسوبة، بل كـ”تضحيات عظيمة” على طريق النصر، في عملية غسيل دماغ جماهيرية هدفها شرعنة الموت وتبرير المقامرة.

ولم يتوقف دور الجزيرة عند حدود نقل صور الواقع، بل تعداه إلى صناعة رواية أحادية الصوت. فقد امتلأت شاشتها بقيادات حماس ومحللين قريبين من الجماعة، فيما غابت الأصوات الفلسطينية المعارضة للمغامرة أو الداعية للحلول السياسية. هكذا قُدمت غزة كأرض لا صوت فيها إلا صوت البندقية، وأُقصي صوت الأم المكلومة والطفل الجائع والرجل الباحث عن حياة كريمة. وعوض أن تكون القناة منبراً لكل الفلسطينيين، تحولت إلى منبر جماعة واحدة تحتكر القرار وتفرض رؤيتها على حساب دماء الملايين. الأخطر أن الجزيرة ضاعفت من خطاب “المقاومة العابرة للحدود”، فكانت تحرض الجماهير العربية على الانفعال دون مشروع، وتدفعها إلى تصديق أن دماء الغزيين هي “وقود الأمة”، بينما هي تعلم أن هذه الجماهير لن تدفع الثمن، وأن الضحية الحقيقية هي الشعب المحاصر تحت القصف.

هذه ليست المرة الأولى التي تلعب فيها الجزيرة هذا الدور التخريبي في تشكيل وعي الجماهير. ففي تسعينيات القرن الماضي، ومع انطلاق بثها، قدمت نفسها كمنبر حر يرفع الصوت المكبوت، لكنها سرعان ما تحولت إلى منصة أيديولوجية تخدم أجندة محددة. في الربيع العربي، لعبت دوراً مركزياً في تضخيم الأزمات الداخلية، من مصر إلى ليبيا وسوريا واليمن، حيث غابت المهنية وحضرت التعبئة، فأصبحت القناة جزءاً من الصراع لا ناقلاً له. في مصر، ألبست جماعة الإخوان رداء “الثورة الشعبية” وقدمتهم كخيار شرعي من أجل السلطة وترويج خطاب المظلومية مع شيطنة النظام…، لتكتشف الجماهير لاحقاً أنها وقعت ضحية دعاية رخيصة مغلفة بالدين. وفي ليبيا، ضخمت القناة خطاب الفصائل حتى تحولت البلاد إلى ساحة حرب لا نهاية لها. أما في سوريا، فقدمت الجماعات المسلحة كـ”ثوار أحرار”، متجاهلة جرائمهم وانقساماتهم، لترسخ الفوضى التي يعيشها البلد حتى اليوم.

الجزيرة أعادت نفس النمط في “طوفان الأقصى”: صور مختارة بعناية، شعارات متفجرة بالعاطفة، تحليلات أحادية الاتجاه، تغييب للصوت النقدي، كل ذلك ضمن استراتيجية إعلامية لا تخدم الحقيقة بل تفرض سردية جاهزة. والنتيجة أن ملايين العرب صدقوا أن غزة تنتصر بينما هي تنزف، وأن المقابر الجماعية إنجاز، وأن الجوع “مقاومة”، وأن الموت مشروع. هذا ليس إعلاماً، بل بروباغندا سوداء توظف الدماء وقوداً للخطاب.

ولفهم خطورة هذه الدعاية أكثر، يكفي أن نستعيد أمثلة تاريخية أخرى تكشف نمط الإخوان في المتاجرة بالشعوب. في حرب 1948، زجوا بآلاف الشباب العرب في معارك خاسرة بلا إعداد ولا سلاح، ثم عادوا ليفاخروا بدمائهم. في حرب أفغانستان، حُشدت الجماهير بشعارات “الجهاد المقدس”، لينتج عنها مقابر جماعية وفوضى استثمرت فيها القوى الكبرى. في الجزائر خلال التسعينيات، دفعوا البلاد إلى حرب أهلية دموية بشعارات “الحكم بشرع الله”، حصدت أرواح أكثر من 200 ألف إنسان بريء. وفي سوريا بعد 2011، كرروا السيناريو ذاته: رفعوا شعار “الثورة”، ثم باعوا البلد في صفقات إقليمية، تاركين ملايين السوريين بين المنافي والمقابر. واليوم، يُعاد إنتاج ذات المدرسة في غزة: دماء تُسفك، وطن يُدمر، شعب يُستنزف، وإعلام يعلن “النصر المبين”.

الحقيقة العارية أن غزة لم تنتصر، بل خُدعت بشعارات زائفة وروجت لها الجزيرة كحقائق دامغة. لم تتحقق أي مكاسب سياسية أو استراتيجية، بل حصلت إسرائيل على ذريعة لتدمير القطاع، وجدت غطاءً دولياً تحت شعار “مكافحة الإرهاب”، وأصبح الفلسطيني في عزلة أشد ومعاناة أكبر. أما الجزيرة فقد ربحت المشاهدة والتأثير، ورسخت سرديتها الأيديولوجية على حساب الحقيقة.

إن الرأي العام العربي والإسلامي مطالب اليوم بموقف تاريخي: أن يدرك أن الجزيرة لم تكن يوماً منبراً حراً، بل أداة دعائية موجهة. أن يرفض لغة العاطفة التي تُشرعن الموت وتُخفي الحقائق. أن يواجه خطاب التضليل بخطاب عقلاني واقعي يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، لا كمنصة لأجندات عابرة للحدود. مواجهة الجزيرة تبدأ بفضح دورها، بفضح كيف غسلت الدم بالخطاب، كيف حولت الجريمة إلى بطولة، وكيف باعت الوهم على أنه نصر.

إن الشعوب لا تنتصر بالأكاذيب، ولا تتحرر بالدعاية، بل بالمشاريع السياسية الصادقة، بالوحدة الوطنية، بالقدرة على بناء استراتيجية تحفظ الدم وتحمي الأرض. أما الجزيرة، فستبقى شاهداً على واحدة من أبشع عمليات التضليل في تاريخ الإعلام العربي، قناة لم تنقل الحقيقة في غزة بل زيفتها، لم تكن صوت المقهورين بل صوت من زج بهم في المحرقة، ثم أعلن على أنقاضهم “الانتصار المبين”.