انتهت الحرب؟ أم أُعيد ترميزها؟

د. أميرة فؤاد النحال

مع تصاعد الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وصدور مؤشرات إيجابية من أطراف متعددة، تتجه الأنظار إلى الصفقة المرتقبة بوصفها نهاية لمسار طويل من العدوان على غزة، لكن هذه اللغة المطمئنة تخفي خلفها سؤالاً سياسياً: هل انتهت الحرب فعلاً؟ أم أننا أمام ترميز جديد لها بلغة مختلفة وأدوات محدثة؟

التحوّل الجاري لا يرتبط فقط بوقف القصف، بل بإعادة تعريف المعركة برمّتها، حيث تُطرح الصفقة كحل إنساني، بينما يُعاد ترتيب المشهد الميداني والإقليمي لتكريس نتائج الحرب دون الاعتراف بها كجريمة، إنها لحظة إعادة تعريف العدوان لا ترميزه؛ حين تتحوّل المجازر إلى مقدّمات تهدئة، وتُستخدم عبارات من قبيل المرونة، التقدّم، والأمل، لا لوقف الجريمة، بل لتأطيرها في اتفاق لا يُحاسب أحداً، ولا يعيد شيئاً فعلياً للفلسطينيين سوى إدارة محسّنة للمأساة.

لم يكن الاحتلال بحاجة إلى نصر ميداني ليفرض شروطه؛ كان يكفيه أن يُخرج نفسه من مأزقه بمظهر من يُنهي حرباً معقّدة عبر اتفاق منسّق، لكن أهل غزة بثباتهم ومقاومتهم، سلبوه هذا الامتياز، ففي الميدان فشل في تصفية المقاومة، وفي تفكيك بنيتها، وفي إعادة تشكيل بيئة غزة وفق ما أراده من هندسة أمنية.

بعد واحد وعشرين شهراً من العدوان الوحشي، لم ينجح الاحتلال في حسم المعركة عسكرياً، ولا في إخضاع الشعب الفلسطيني سياسياً أو ميدانياً، ما جرى هو إخفاق مركّب: في الأهداف، وفي التوقيت، وفي التكلفة، وعليه فإن ما يسوّقه اليوم من صفقة ليس إلا محاولة لإعادة ترتيب الخروج، وتجميل مشهد الانسحاب، وتثبيت مكاسب قسرية دون اعتراف بالخسارة.
العدو لا يفاوض لأنه منتصر، بل لأنه لا يستطيع الاستمرار، وما يُروَّج له على أنه نهاية الحرب ليس إلا إدارة جديدة للمعركة بأدوات غير عسكرية، والصفقة المطروحة لا تُنهي شيئاً، بل تسعى لإعادة إنتاج السيطرة عبر هدوء مشروط يجمّد الميدان ويقيّد المقاومة، وهكذا يحاول الاحتلال أن يخرج من غزة خالي الوفاض، لكن بغطاء تفاوضي يقيه من الاعتراف بالهزيمة.

في السابق لم يكن وقف إطلاق النار نهاية للعدوان، بل غلافاً لإعادة تموضع الاحتلال سياسياً، واليوم يعود السيناريو ذاته بلغة محسّنة: لا قصف، لكن لا إعمار بلا موافقة المحتل، لا اجتياح لكن حصارٌ مُحكم تتولى آليات مدنية تنفيذه من معابر ومعايير تمويل واشتراطات أمنية، تُعيد إنتاج نظام السيطرة تحت غطاء التهدئة، إنّ ما يُعاد ترتيبه الآن هو هندسة خادعة للواقع: تثبيت الحصار بوصفه حالة طبيعية، وتحويل سلوك المقاومة إلى خلل في الاستقرار يجب احتواؤه، بهذه الصيغة تتحول التهدئة من مطلب إنساني إلى أداة ناعمة لاستكمال أهداف الحرب: إنها التهدئة كغطاء للهيمنة المقنّعة.

الخطورة لا تكمن في وقف إطلاق النار نفسه، بل في الإطار السياسي والأمني والإعلامي الذي يُغلّفه، فحين يُفرض الهدوء كمقدمة لتمويل مشروط، واستقرارٌ مقابل نزع أدوات الردع، فإننا لا نتجه نحو نهاية الحرب، بل نحو إعادة هندستها بلغة محايدة ظاهرياً، لكنها استعمارية في جوهرها.

منذ بدء المفاوضات غير المباشرة، أكدت المقاومة أن وقف إطلاق النار ليس ثمناً للصمت، بل مدخلاً لتحصيل الحقوق، وفي تصريح أدلى به حسام بدران -القيادي في حماس- (25 يونيو 2025)، قال: “لسنا في معركة على فتات، بل في لحظة مفصلية لفرض قواعد جديدة تربط التهدئة بتحرير الأرض وكرامة الأسرى”، هذا الخطاب لا يأتي من فراغ، بل يُعبّر عن تمسك بمفهوم المقاومة المتواصلة، لا المتقطعة بالهُدن، ومع ذلك تتزايد الضغوط الميدانية والإعلامية، من جهة يتعرض الداخل الغزّي المنهك لعملية دفع قسرية نحو قبول ما هو مُتاح، ومن جهة أخرى تقوم وسائل إعلام عربية وعبرية ببث لغة مكرّسة تتحدث عن واقعية مطلوبة ونضج سياسي، في محاولة واضحة لعزل المقاومة عن حاضنتها الشعبية.

في هذا السياق يُطرح السؤال الأخطر: هل يُنتظر من الوفد الفلسطيني أن ينتزع مكاسب، أم يُطلب منه فقط أن يُوقّع على نهاية مرتّبة للمعركة؟

ما يُسرب من بنود الصفقة يشير إلى هذا التوجه، فعلى سبيل المثال الموافقة على إطلاق الأسرى على مراحل وفق الظروف الأمنية، بند غامض يُبقي القرار بيد الاحتلال، كما أن الحديث عن إعادة الإعمار عبر آلية خارج سيطرة الفصائل هو في جوهره محاولة لفصل المقاومة عن المجتمع، وتجريدها من عمقها المدني والسياسي، لكن غزة تعرف المعادلة جيداً: الشرعية ليست في الورق بل في الميدان، وما لم تُحصّن أي تسوية بحق العودة، وكرامة الأسرى، ورفع الحصار بالكامل، فإن التهدئة ستكون مجرد استراحة تقنية للعدو، لا إنجازاً للفلسطينيين.

أهل غزة الذين عاشوا الحرب بجسدهم يعرفون أن الكرامة ليست بنداً تفاوضياً، وأن الدم لا يُقايَض بخطابات سياسية مصاغة في العواصم البعيدة، ولذلك فإن مهمة الوعي الشعبي الآن ليست فقط دعم الوفد المفاوض، بل الحيلولة دون تمرير الصفقة بوصفها مخرجاً مشرّفاً للاحتلال.
قال أحد أطباء مستشفى الشفاء، بعد استئناف القصف على رفح في مايو الماضي: “ليست هذه هدنة، هذا ترتيب للهدوء كي يعودوا إلينا بنيران أوضح”، هذا الوعي الشعبي هو ما يجب تثبيته اليوم، فلا صفقة تصنع الكرامة إن لم تكن امتداداً للثبات، ولا تهدئة تُحترم إن لم تُنتزع بكرامة لا تُمنح بشروط العدو.

المسؤولية الآن على النخب، والإعلام، ومكونات الداخل، أن لا يُستدرجوا إلى لغة الاستسلام المغلّف، بل أن يحموا المعنى الحقيقي للنصر: كرامة لا تُمس، وحق لا يُؤجَّل، ومقاومة لا تُقيَّد بمواثيق مدجّنة.

ليست العواصم من تكتب نهاية هذه الحرب، ولا غرف التفاوض المعقّمة من تحدد ثمن الدم، الكلمة الأخيرة لا تُصاغ في البيانات المشتركة، بل تنطق بها بنادق الرجال في الميدان، وأنفاس الجرحى في ممرات المستشفيات، وصبر العائلات التي ما زالت تقف بين الركام تنتظر فعلًا لا وعداً.

إن القرار الحقيقي لا يخرج من الدوحة والقاهرة، بل من أزقة غزة المهدّمة، ومن بين الحطام الذي لم ينجح في دفن الكرامة، هناك فقط يُمكن أن تُحدَّد معالم الصفقة: لا بما يُمنَح للعدو من غطاء، بل بما يُنتزع له من حساب.
فالمعركة لم تنتهِ وإن خفت صوت النار فإنّ الميدان لم يسلّم رايته وإن تغيّرت لهجة العناوين، ومن يظن أن بإمكانه طيّ صفحة الحرب دون مساءلة، سيفاجئه الميدان مجدداً بالحقيقة القادمة من الجنوب الذي لم يُهزم.