من المنطقي أن يكون للزلزال الذي أصاب حركة حماس بعد السابع من أكتوبر ارتدادات صعبة، منها العلنية والكثير ما زال مخفيا لا يدركه إلا العارفون بتفاصيل الحركة، والتي كان آخرها قرار تسليم الأسرى الإسرائيليين والجثث الصادر عن قيادة القسام في غزة، وهو ما يثبت أنها لم تكن خطوة تفاوضية بحتة، إنما السرعة الكبيرة التي أبرمت بها الصفقة تثبت أن الهدف كان ذا شأن داخلي أكثر من غيره، يتمثل في وقف عملية إضعاف وإنهاء طرف “المحررين” على أيدي “البراغماتيين” داخل الحركة.
ومما لا شك فيه أن هناك تباينا ونزاعا كبيرا بين طرفين داخل التنظيم، أحدهما يقوده الخارج والآخر من المحسوبين على الداخل، فالصراع اليوم بات بين “المحررين” أو ما كانوا يعرفون بـ”الصقور” وهم المقربون من إيران بقيادة إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومروان عيسى سابقا بعدما أسقطتهم ارتدادات السابع، والآن يقوده خليل الحية في الخارج والمسؤول عن حماس داخل القطاع فقط، وهو أقرب إلى الجناح العسكري، ويميل هذا إلى محور إيران، ومعروف عنه التشدد في المواقف، ومعه عز الدين الحداد في غزة، وغازي حمد، وزاهر جبارين، وآخرون، وهم يتبنون ذات المواقف المتطرفة.
أما الطرف الآخر “البراغماتيون” فيتسم بأنه أكثر مرونة مع القضايا الشائكة ويميل إلى الموقف العربي الموحد بقيادة السعودية، ومن أبرز وجوه هذا الفريق خالد مشعل الذي يشغل حاليا منصب قائد الحركة في الخارج، وكان قد سبق له أن كان رئيس المكتب السياسي للحركة وصاحب الكلمة النهائية فيها، بالإضافة إلى موسى أبو مرزوق وأغلب أعضاء المكتب السياسي في الخارج مثل محمد نزال وعزت الرشق.
والحقيقة أن هذه الخلافات قديمة في أصلها، لكنها تجددت بعد اغتيال أبرز وجوه “الصقور”، بينما جاءت موافقة الصقور المحررين على التهدئة محاولة لملمة صفوفهم واستمرار حضورهم داخل بنية القرار التنظيمي، غير أن الانجراف شبه الكامل لتيارهم باتجاه إيران عمق الانقسام في الرؤية والنهج، فيما يحاول البراغماتيون ممارسة سياسة واقعية تشبه في جوهرها براغماتية أحمد الشرع بشكل ربما يصدم مناصري الحركة أنفسهم.
ومن أبرز الخلافات، وحسب مصادر خاصة، فإن سبب خروج فتحي حماد، الذي كان أبرز صقور حماس والذي كان سببا في نجاح يحيى السنوار برئاسة الحركة في آخر انتخابات تنظيمية، هو السنوار نفسه، بعدما اتهمه بقضايا فساد. فتحي حماد الذي كان يدخل القصر الجمهوري في القاهرة مع مرافقيه وعناصره في أي وقت ليقابل الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، وهو ممن أقنعوا مكتب الإرشاد المنحل في مصر بالمواجهة والحسم أو الانقلاب كما فعل هو في عام 2007 في غزة، يعيش الآن في تركيا للعلاج كما أعلن أقاربه.
اليوم، وجدت حماس نفسها وحيدة في عزلة إقليمية واضحة، بعدما تخلى عنها تنظيم الإخوان العالمي فعليا، وما يسمى “محور المقاومة” الإيراني، لتعيش صراع تيارات داخلية بين تيار “المحررين” وتيار الإخوان التقليدي “البراغماتيين”، وهذا أمر منطقي لأسباب عديدة، فبعد فوز السنوار تراجعت رعاية الإخوان للحركة، لتتجه بشكل حاد نحو إيران وتنضوي تحت مظلتها، لكن تيارا آخر سعى إلى تغليب العمل الدعوي والتربوي في المساجد والمجتمع على خيار السلاح والخلاف، لذلك بقيت ما تسمى “الدعوة” داخل حماس، حتى مراحل متقدمة جدا، هي الجناح الأقوى من الجناحين العسكري والأمني وحتى العمل السياسي، حتى بعد التهدئة الحالية أو حتى بعد انتهاء الحرب، فدعوة حماس ستبقى الجناح الأقوى.
المقلق في الأمر كله أن خلافات الحركات الإسلامية عادة تميل إلى التشدد والعنف الداخلي، بما قد يفضي إلى تصفيات فكرية وتنظيمية داخل التنظيم ذاته، مثلما حدث مع أيمن طه الذي قتلوه بتهمة العمالة لجهات أجنبية، والقيادي عماد العلمي الذي ادعوا أنه قُتل أثناء تنظيف سلاحه، فكيف بقيادي سياسي ينظف السلاح؟ وليس آخرها مسرحية مقتل مازن الفقهاء التي تم اتهام ثلاثة أشخاص بقتله وأنهم عملاء لإسرائيل، وتمت محاكمتهم وقتلهم خلال أيام فقط حتى ينهوا القضية، رغم أن القضايا في المحاكم تحتاج سنوات، وخصوصا قضايا القتل.
وما كان ملاحظا وواضحا أن تيار “الصقور” قبل الحرب كان يفرض رأيه، ولكن بعد اغتيال أغلب قياداته ودمار غزة، بات تيار “البراغماتية” في الخارج يريد لوجهة نظره أن تُفرض. ومن هنا برزت الخلافات الداخلية بين قيادات الحركة، وارتفعت وتيرتها أكثر بعد التهدئة، وخصوصا في موضوع نزع السلاح الموجود ضمن خطة ترامب للسلام، الذي أدى إلى نشوب خلافات حادة بين تياري الصقور والبراغماتيين. يريد الفريق الأول التمسك بالسلاح، أما الآخرون فيعتقدون أنه لا بد من تجديد الحركة نفسها وأفكارها والتخلي عن السلاح.
وحسب مصادر خاصة، شهدت اجتماعات حماس التي ناقشت “ملف السلاح ونفي عناصر الحركة وتسليم الحكم” انقساما كبيرا داخل قيادات الحركة، فيما تدخل عضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق الذي يدير ملف العلاقات الدولية وحاول تقريب وجهات النظر بين الحية ومشعل، حيث وضع أبو مرزوق تصورا وسطا، إذ اقترح تسليم السلاح الثقيل من أنفاق وصواريخ، مع الحفاظ على السلاح الخفيف مثل البنادق وغيرها، لكن المشكلة كانت في عدم قدرة القيادات على فرض نزع السلاح واستجابة العناصر داخل غزة لهذا التوجه، خاصة أن حماس قامت بتجنيد عدد من المقاتلين منذ بدء الحرب، من بينهم أشخاص دمرت منازلهم أو قتل أفراد عائلاتهم، وسيكون من الصعب عليهم التخلي عن أسلحتهم.
خلافات حماس الأخيرة تشير إلى أن الحركة تواجه أزمة هوية سياسية وتنظيمية، إذ لم تعد قادرة على التوفيق بين شعاراتها الثورية وواقعها العملي المعقد، كما أن تزايد ظهور الخلافات الإعلامية بين قياداتها مثل مشعل وأحد أقاربه، والحية وغيره من القيادات، أفقدها جزءا من هيبتها أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي، وأثار تساؤلات حول قدرتها على إدارة المرحلة المقبلة بفاعلية.
في المحصلة، ما عاد مقبولا أن يحدد مصير غزة من يسكن القصور المكيفة في الخارج ويتحدث بلغة البراغماتية المعلبة، فيما أهل القطاع يعيشون بين الركام وتحت الحصار. فتيار مشعل الذي يفاخر بعلاقاته وبياناته لا يملك لا الأرض ولا الميدان، ولا يحق له أن يساوم على تضحيات من ينامون في الظل والدخان. إن غزة اليوم لا تحتاج إلى خطابات ناعمة ولا إلى مكاتب سياسية متنقلة بين العواصم، بل إلى من يحمل وجعها ويعرف معنى الصمود على ترابها.
ولأن الصراع داخل الحركة لم يعد خلافا تنظيميا بل أزمة هوية وشرعية، فإن الانشقاق بين “المحررين” و”البراغماتيين” مرشح للاستمرار وربما الانفجار، خصوصا مع عجز قيادة الخارج عن فهم ما يجري فعليا في غزة. فالحركة أمام مفترق حاسم، إما أن تواجه نفسها بصدق وتعيد بوصلتها إلى أرضها، أو أن تذوب في لعبة التوازنات التي يجيدها من يسكنون خارجها.
الخلافات لن تتوقف هنا، وما جرى حتى الآن ليس إلا بداية مرحلة أكثر سخونة وتعقيدا،، وللحديث بقية في المقال القادم.






