السياسي -وكالات
على هامش الأحداث الرياضية التي لا تهدأ في العاصمة الفرنسية هذه الأيّام، هناك نشاط دبلوماسي ملحوظ، مناورات استخباراتية، صفقات استراتيجية، ومفاوضات من جميع الأنواع يقوم بها عملاء رسميون، بل وحتى غير رسميين، وذلك عبر اجتماعات لا تُعدّ ولا تُحصى.
وبعيداً عن منافسات الرياضيين وبطولاتهم في النور، هناك سباقات من نوعٍ آخر عادة ما تحدث في الظل خلال الألعاب الأولمبية
وباريس ليست استثناءً بالتأكيد، حيث الفرصة مواتية لأجهزة الاستخبارات من مختلف أنحاء العالم للالتقاء والعمل في مكان واحد، وربّما عقد الصفقات، والهدف الظاهر هو درء أي تهديد، وتجنّب محاولات زعزعة الاستقرار.
في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، استقبلت المديرية العامة للأمن الداخلي (الاستخبارات الفرنسية) في مركز الأزمات الدولي بباريس، ضباط اتصال من حوالي 200 دولة ممثلة في الألعاب الأولمبية، وخيّم حينها جو ثقيل، كان الوفدان الإيراني والإسرائيلي يُراقبان بعضهما البعض، والجميع يُشارك في أعمال التجسس على الآخرين.
والآن بعد أن بدأ أولمبياد باريس 2024 منذ أيام، بات المجال مفتوحاً أمام عرض متواصل من عملاء المخابرات الذين جاؤوا لزعزعة هدوء المناطق الغنية في باريس، حيث يعمل جواسيس من جميع أنحاء العالم في أفخم الفنادق للحصول على أيّ معلومات قد تكون سرّية، وذلك من خلال حفلات الكوكتيل والاجتماعات العلنية والسرّية في الردهات الواسعة.
يبتسم أحد الدبلوماسيين المُقيمين في باريس قائلاً: “خلال الألعاب الأولمبية، حتى عندما تُريد مشاهدة حدث ما بهدوء، ينتهي بك الأمر إلى بدء محادثة (سياسية) مع مسؤول من بلد آخر في ممرات الملاعب الرياضية، لذا لا ينبغي لهؤلاء أن يترددوا في النظر من فوق أكتافهم، فقد يكون هناك من يستمع إليهم”.
وبينما يتعيّن على الأجهزة الفرنسية المخصصة لمكافحة التجسس أن تواجه التهديد الإرهابي، وأن تراقب الحركات السياسية المتطرفة، يُمكن للدول الصديقة والعدوّة على حدّ سواء أن تغتنم الفرصة لإرسال عملائها، لتُصبح الألعاب الأولمبية بمثابة نعمة للجواسيس حول العالم، خاصة مع توقّع 16 مليون سائح، هناك من بينهم عدد كبير من المُشتبه بهم المُحتملين.
كتائب وحشود العملاء
وليس من المُستغرب أن يصل الأمريكيون والإنجليز والإسرائيليون بأعداد كبيرة إلى العاصمة الفرنسية.
ووفقاً لمذكرة اطلعت عليها مجلة “ماريان” الفرنسية، فإنّ سفارة الولايات المتحدة، وهي على مرمى حجر من الإليزيه، تضمّ مركزاً استخباراتياً خاصّاً بها يتمتع بالتالي بالحصانة الدبلوماسية. ولذلك فإنّ مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالة المخابرات المركزية، ووكالة الأمن القومي وغيرها من الوكالات الأمريكية الأقل شهرة، مثل وكالة الأمن السيبراني وأمن الكمبيوتر، كلّها موضع ترحيب هناك.
ويُمكن للاستخبارات الأمريكية أيضاً الاعتماد على وصولها الحصري إلى أعلى السلطات في الدولة الفرنسية. وهي ميّزة لا تُقدّر بثمن، خاصة بالنسبة لأمن جيل بايدن، التي كانت حاضرة في حفل الافتتاح والتي تمّ توفير الحماية لها من قبل الخدمة السرّية، الوكالة التي تعيش حالة من الاضطراب منذ محاولة اغتيال الرئيس السابق والمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب.
وذكرت تقارير استخباراتية أنّ ما لا يقل عن مائة عميل أمريكي جاؤوا كتعزيزات، هذا فضلاً عن وجود عملاء سريين لم يتم الإعلان عنهم رسمياً للسلطات الفرنسية التي تضطر لاستخدام أرقى لغة دبلوماسية لتصل إلى الهدف، حيث تُعلن أنّ “الولايات المتحدة حليف نتبادل معه المعلومات، وأيّ نشاط يكون موضوع مناقشات، وهم ملزمون بالإعلان عن كل شيء”.
ماذا يفعلون؟
لكنّ أوليفييه ماس، المدير العام السابق للمديرية العامة للأمن الخارجي في فرنسا، يقول “ما الذي تفعله كتائب العملاء هذه على أرضنا، وهي أكثر جداً من الوحدات التي دعتها الدولة الفرنسية للحضور. بينما يُفسّر دبلوماسي أمريكي نشط “من غير المرجح إطلاق عمليات توظيف للعملاء تستغرق عدّة أشهر، لذا هناك اتصالات متجددة مع معارف قُدامى، ورسائل يتم تسليمها بين الأجهزة من بلدان مختلفة، ولكن قبل كل شيء، يتعلق الأمر بضمان أمن الوفود الرياضية وكبار الشخصيات الزائرة”.
والولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي اختارت زيادة عدد عملائها المتمركزين بالفعل في فرنسا. إذ جعلت لندن سفارتها وكراً للجواسيس طوال فترة الأولمبياد من خلال نشر عملاء من جهاز المخابرات السرّية الشهيرMI6 . هذا فضلاً عن عملاء مخفيين يعملون لصالح كلّ من روسيا والصين.
ومن جانبهم، أرسل الإسرائيليون عملاء مسلحين من الشاباك لضمان حماية وثيقة لوفودهم المكونة من 88 رياضياً “مُعرّضين للخطر”.
وفي سياق ما بعد هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والحرب القاتلة في غزة، فإنّ الشاباك على حافة الهاوية. خاصة وأن رئيس اللجنة الأولمبية الفلسطينية جبريل الرجوب ليس مجهولاً لديهم، فهو المدير السابق للأمن الفلسطيني في الضفة الغربية، وسبق أن اعتقلته إسرائيل مرّات عديدة لشنّه هجمات بالقنابل ضدّ جيشها.
مُبالغة في نشر الجواسيس
ويرى الكاتبان والمحللان السياسيان الفرنسيان مايل جوان وبرونو ريث، أنّه بعيداً عن الوفود المُعرّضة للخطر، فإنّ الدول المشاركة في الألعاب الأولمبية تُمارس في أغلب الأحيان أسلوب المُزايدة في النشر المكثف للعملاء والجواسيس، فالجميع يخافون من عدم القيام بما يكفي مُقارنة بجيرانهم، لذا استمرّوا في إرسال المزيد من العملاء.
وكان وزير الداخلية الفرنسي المُستقيل جيرالد دارمانين، قد أسرّ في مقابلة مع صحيفة “لو جورنال دو ديمانش”، أنه تمّ استبعاد حوالي مائة عميل أجنبي، جواسيس أو مُخبرين، من الذين عملوا تحت أغطية مختلفة، كصحفيين، وأخصائيي علاج طبيعي، وموظفين فنيين، ضمن وفود الدول، لكنّه طمأن بأنّهم لم يحضروا بالتأكيد لتنفيذ هجمات، بل لممارسة أعمال التجسس التقليدي.
هدنة ومُعجزة دبلوماسية!
بالإضافة إلى الهجمات الإرهابية المُحتملة والذئاب المُنفردة والطرود المفخخة، فإنّ الجواسيس الأولمبيين مهووسون عادة بالهجمات الإلكترونية التي تمّ تصنيفها باعتبارها التهديد رقم 1. إذ توقّع المنظمون قبل بدء المسابقات، حوالي 4 مليارات هجوم إلكتروني! حيث بإمكانهم حتى تدمير وتخريب شبكات الهاتف والكهرباء والنقل.
وقالت الوكالة الفرنسية الوطنية لأمن نظم المعلومات، المسؤولة عن القضايا السيبرانية، إنّه من الممكن مواجهة أعمال هجومية لزعزعة الاستقرار عبر الإنترنت من جانب الروس. وكشف دبلوماسيون أجانب في فرنسا أنّهم تلقّوا بالفعل رسائل بريد إلكتروني مرسلة مباشرة إلى عناوينهم الرسمية، وتتطابق تماماً مع رسائل الحكومة الفرنسية، لكنّ محتواها ينشر معلومات كاذبة حول النقل وخطر الإرهاب.
ومن جهتهم، بذل الدبلوماسيون الفرنسيون قصارى جهدهم لاستيعاب حساسيات أكثر من 80 رئيس دولة وحكومة، فضلاً عن المئات من الشخصيات البارزة التي تحضر خلال الأيّام الرياضية للأولمبياد. فالاستخبارات تُنبّه إلى ضرورة عدم خلق حوادث استفزاز بين الصينيين والتايوانيين، وبين الأذربيجانيين والأرمن، على سبيل المثال، واصفين الألعاب الرياضية بأنّها هدنة تُشكّل استثناءً، بل “معجزة دبلوماسية”.