باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، هل تُراجع حكومة اليمين المُتطرّف الإسرائيلي حربها في غزّة، ولا سيّما أنّ هذه الحكومة وضعت في قائمة أهدافها، منذ إعلانها الحرب، قتل السنوار، الذي تتهمه بالتخطيط لعملية طوفان الأقصى والإشراف عليها؟ فباستثناء العثور على ما تبقّى من أسرى إسرائيليين أحياء في غزّة، استنفدت إسرائيل أهدافها في الحرب على القطاع، إلى درجة أنّها تضرب من أجل التدمير وحسب، وما بقي من أهداف، مثل القضاء على “حماس” نهائياً، فهي تبدو غير واقعيةٍ بسبب تجذّر الحركة في القطاع وانتشارها الواسع في داخل البنية المجتمعية الغزّية.
ظلّ هدف قتل السنوار المُحرّك الأساس للحرب الإسرائيلية، وتحت هذا الغطاء استطاع نتنياهو التصدّي للضغوط الداخلية والخارجية، فانتهاء الحرب مع بقاء السنوار حيّاً (في نظر قادة إسرائيل) كان سيجعل الحرب بلا معنى، واستمراره في قيادة “حماس”، سيجعله يعيد ترميم قوّة الحركة في وقت لن يطول، بفضل ما يمتلكه من قوّة الشخصية، ومواصفات القائد السياسي والميداني الحازم، وبفضل ما يملكه من شرعية بعد قيادته الحركة خلال الحرب.
تدرك إسرائيل أنّ السنوار يتفرّد بمكانة مميّزة في تاريخ النضال الفلسطيني، والمقاومة العربية عموماً، فهذا الرجل لم يعرف المهادنة يوماً، ولم يرضَ بأقلّ من تحرير وطنه، اختار أصعب الدروب والمسالك للوصول إلى هدفه، قضى نحو نصف حياته سجيناً، وكان سجيناً مُتعِباً لسجّانيه، يتحدّاهم في عقر سجنهم، يطعن في شرعية وجودهم ويستخفّ بقوّتهم، ويعدهم بأنّه سيأتي يوماً ليقتلعهم بطوفان يقوده ضدّهم. لم يكن السنوار قائداً بخُطَبه، بل كان ابن الميدان، وكان حاسماً في قراراته، بدا ذلك من خلال تغييره طبيعة عمل أجهزة الحركة الأمنية، التي تولّى قيادتها، وفرض أسلوبه ومنطقه على الحركة وآليات عملها، وأعاد تشكيلها وفق رؤيته لها حركةَ تحرّرٍ في ظروف بالغة التعقيد. حتّى قيادات “حماس” الأقدم كانت تحسب له حساب، أمّا القيادات الميدانية فوجدت فيه قائداً يستحقّ السير خلفه لما يتمتّع به من موثوقية وقدرة على الحسم وفائض من التصميم.
هذا المشهد أدركته إسرائيل جيّداً، ولم يكن هدف تصفية السنوار وإزاحته من قيادة “حماس” مُجرَّد إرضاءِ الشعور بالانتقام من السنوار لقيادته عملية طوفان الأقصى، التي أذلّت جيش إسرائيل وأجهزتها الأمنية، بل لأنّها اعتبرته محور حركة المقاومة في غزّة وفلسطين، ومن ثمّ فإنّ إزاحته قد تقضي على الدينامية التي شكّلها حضوره وقيادته للحركة، وإطلاق ديناميات جديدة من شأنها تغيير المعادلة بشكل كبير في غزّة، وعلى مستوى القضية الفلسطينية كلّها. في تقديرات إسرائيل أنّ إزاحة السنوار من شأنها إضعاف حركة حماس إلى حدّ بعيد، ولا سيّما أنّ الحركة باتت تفتقد شخصيةً قياديةً بحجم السنوار، وهذا يشبه إلى حدّ بعيد تصوّرات إسرائيل بعد اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، مع فارق أنّ السنوار يقود “حماس” متفرّداً، وهيكلية الحركة بسيطة وليست معقَّدةً مثل نظيرتها عند الحزب، كما أنّ التأثير الخارجي أضعف عند الحركة من تلك الموجودة عند الحزب، فلا يستطيع الحرس الثوري الإيراني مثلاً التدخّل بآليات عمل الحركة ولا بسياساتها، كما يفعل مع حزب الله.
بناء على ذلك، السؤال الملحّ اليوم: هل سيتخذ نتنياهو قرارَ وقف الحرب في غزّة، بعد إنجازه هدف اغتيال السنوار؟ … هنا يمكن الحديث عن سيناريوهين: الأول، إعلان إسرائيل قريباً انتهاء عملياتها العسكرية في غزّة، لا سيّما أنّها أخيراً بدأت بترسيم الشكل النهائي لمستقبل القطاع، من خلال إفراغ شماله وتحويله منطقةً عازلةً والسيطرة على المعابر في رفح، ومن ثمّ، إذا لم تستجدّ أيُّ مُستجِدَّات ميدانية خطيرة تكون إسرائيل قد حقَّقت أهدافها، أو على الأقل تستطيع حكومة اليمين الإسرائيلي تقديم صورة نصر للداخل والخارج الإسرائيليين. وتدعم هذا السيناريو حاجة إسرائيل إلى الموارد العسكرية في جبهات الشمال، المتوقّع أن تشهد تطوّرات دراماتيكية في المرحلة المقبلة، وتتطلَّب جهوداً عسكريةً كبيرة.
السيناريو الثاني، استمرار الحرب، وذلك لتصوّر اسرائيل أنّ لديها فرصةً لسحق المقاومة الفلسطينية نهائياً، ووفق هذا التصوّر ستكون الأيام المقبلة أشدّ ضراوةً، انطلاقاً من الاعتقاد بأنّ الحركة في حالةٍ من الصدمة والفوضى والانكشاف، واستمرار الحرب في غزّة لا يؤثّر بشكل كبير في جبهات الشمال، إذ تستطيع إسرائيل إدارة الحرب في جبهتَين، كما ثبت خلال الأسابيع الماضية، ومن ثمّ فإنّه لا داعي لإنهاء الحرب والطرف الآخر يمرّ بأقصى مراحل ضعفه.
رغم ترجيح السيناريو الأول، لاعتبارات داخلية وخارجية وميدانية، على اعتبار أن نتنياهو المستغرق في حرب لبنان، ويحتاج إلى تخفيف الضغط عليه، ويرغب في إيصال رسالة للعالم أنّه يميل للتهدئة والسلام، ومراعاة الاعتبارات الدولية، فإنّ إنهاء الحرب على غزّة ليس مضموناً ضماناً كبيراً، وقد يناور نتنياهو عبر تخفيف كثافة ضرباته في المرحلة المقبلة من دون الالتزام بوقفٍ نهائيٍّ للنار، على اعتبار أنّ إسرائيل وصلت إلى مرحلة حاسمة من الحرب، وهي إعادة تصميم الواقع في غزّة حسب خطّتها.