لا يزال الهجوم الذي قامت به حماس في السابع من أكتوبر عام 2023 محل نقاش ومدار بحث في بعض الاوساط الاعلامية الفلسطينية والعربية، فهناك من اعتبره عملا مقاوما يستحق التمجيد والثناء، وهناك من اعتبره مغامرة غير محسوبة وطائشة، وهناك فئة أخرى رأت فيه أكثر من كونه خطأ بالحسابات واعتبرته عملا يتقاطع مع رغبات وأهداف نتنياهو واليمين المتطرف الإسرائيلي على أقل تقدير.
والآن وبعد عامين أصبح من الممكن إجراء تقييم موضوعي بعيدا عن ردات الفعل العاطفية الأولى أو مناكفات النخب أو المواقف المسبقة، خصوصا أن الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني كان باهظا جدا. ثم وبعد عامين أصبح لدينا واقع ملموس ونتائج باتت ملموسة يمكن على أساسها أن نحكم ونقيم، إذا ما كانت حماس على خطأ أو صواب عندما بادرت للقيام بالطوفان؟
صحيح أن الحرب لم تنته ولكن هناك نتائج أصبحت ملموسة يمكن البدء منها، فالتقييم الموضوعي، وتحديد ما إذا كانت حماس على صواب أم خطأ يبدأ من سؤال بسيط وهو إذا ما حققت حماس أهدافها المباشرة وغير المباشرة من السابع من أكتوبر، الأهداف التي حددتها صبيحة ذلك اليوم على لسان محمد الضيف، بالمقابل، إذا يمكن القياس من ما حقق نتنياهو من أهداف حربه على قطاع غزة، وحربه على امتداد الشرق الأوسط؟
بما يتعلق بحماس وأهدافها المباشرة فقد أطلقت على هجومها الواسع “طوفان الأقصى” بمعنى أن هدف العملية المباشر هو وضع حد للانتهاكات الإسرائيلية واقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، والهدف الثاني تبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين، ووقف الانتهاكات في الضفة من اقتحامات واعتقالات واستيطان وإرهاب مستوطنين.
أما عن أهدافها غير المباشرة فهو الحصول على طوفان جماهيري فلسطيني عربي إسلامي شامل، وبالتحديد طوفان “محور المقاومة” ومساندة واسعة وحاسمة من “محور المقاومة” بقيادة إيران. نحن هنا لا نتحدث عن أهداف حماس المتعلقة بأجندتها الإخوانية، وإنما عن الأهداف المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
بالمقابل رئيس الوزراء الإسرائيلي حدد أهدافه المباشرة بالسيطرة على قطاع غزة، وتدمير حماس واستعادة الرهائن وحدد الهدف الأوسع بأنه سيغير خريطة الشرق الأوسط وميزان القوى فيه.
والآن لنرى النتائج، فباستثناء الإفراج عن المئات من الأسرى، فإن حماس لم تحقق أيّا من أهدافها، سواء بما يتعلق بالمسجد الأقصى الذي تزايدت الاقتحامات منذ السابع من أكتوبر، وسجل اقتحام أكثر من 126 ألف مستوطن ومتطرف إسرائيلي خلال العامين الماضيين، كما تضاعفت الاعتقالات والاقتحامات، وزاد إرهاب المستوطنين، والاستيطان، وتم تفكيك مخيمي جنين وطولكرم. وقامت إسرائيل بتقطيع الضفة بمئات البوابات والحواجز العسكرية، فالحياة في الضفة أصبحت أشبه بالجحيم.
أما على صعيد “طوفان محور المقاومة” فلم يأت كما اشتهت حماس، فكانت المساندة رمزية، وان وحدة الساحات لم تحقق من الناحية العملية، ولا الجماهير زحفت من إندونيسيا وماليزيا إلى الدول العربية إلى فلسطين.
من جهته، نتنياهو لم يحقق كل أهدافه المباشرة. فهو بعد عامين لم ينجح بتحرير كل الرهائن، وإن نجح في تحرير معظمهم، كما لم ينجح بالقضاء تماما على حماس، بالرغم انه نجح إلى حد كبير في تدمير قوتها العسكرية وتصفية واغتيال معظم قيادتها العسكرية والسياسية في القطاع، وتصفية اكثر من 20 الف من مقاتليها وكوادرها، واغتيال اسماعيل هنية وصالح العاروري، ونجت قيادتها بأعجوبة في الدوحة، ويحتل جيش الاحتلال الإسرائيلي اليوم 80 بالمئة من قطاع غزة.
أما على صعيد المشهد الأوسع، فقد نجح نتنياهو بالفعل بتغيير خريطة الشرق الاوسط وميزان القوى فيه تماما، وقوض عمليا “محور المقاومة”، عبر إخراج سوريا من هذا المحور وإضعاف “حزب الله” الذي اضطر الى الموافقة على اتفاق ينزع سلاحه جنوب الليطاني وحتى في لبنان كلها، كما أن طهران ذاتها تلقت ضربات قوية وهي اليوم تبحث عن فرص للبقاء ومنع انهيارها من الداخل.. باختصار: نحن اليوم أمام شرق أوسط تمثل إسرائيل الشرطي الإقليمي فيه.
وإذا وسعنا دائرة التقييم بعيدا عن الأهداف المباشرة للطرفين، فإن قطاع غزة تحول إلى منطقة غير قابلة للحياة، بعد أن تم تدمير 90 بالمئة من المساكن والمدارس والجامعات والمستشفيات، والبنى التحتية فيه. والثمن كان باهظا على صعيد الخسائر البشرية، 67 ألف شهيد، بالإضافة إلى آلاف المفقودين تحت الأنقاض، وأكثر من 200 ألف جريح بينهم عشرات الآلاف ممن فقدوا أطرافهم أو أعينهم وتشوهت ملامحهم، أكثر من 12 ألف طفل فقدوا أحد اطرافهم أو عيونهم، ومثلهم من الشباب والشابات وكبار السن، يضاف إلى كل ذلك، خطر التهجير القسري والتطهير العرقي، وحسر سكان القطاع في منطقة صغيرة ضيقة في أوضاع حياتية مزرية.
البعض يحاول ان ينظر إلى حركة التضامن الدولي الشاملة مع الشعب الفلسطيني ومع أهل القطاع تحديدا، وكذلك ما تعانيه إسرائيل اليوم من عزلة دولية واسعة، او حتى سلسلة الاعترافات الجديدة بدولة فلسطين وكأنها ثمرة للسابع من أكتوبر، هذا تقدير غير دقيق، التضامن جاء وتطور نتيحة مبالغة ووحشية الرد الإسرائيلي وعدم تكافؤ هذا الرد مع هجوم حماس، وجاء ردا على حرب الإبادة الجماعية البشعة وسياسية التطهير العرقي وخطر التهجير القسري الجماعي للفلسطينيين في غزة والضفة وسعي إسرائيل إلى تصفية القضية الفلسطينية وبالتحديد إنهاء حل الدولتين عبر ضم الضفة.
المخاوف نشأت من تمادي إسرائيل وتحولها إلى شرطي المنطقة، الشرطي المتحكم بلا منازع بالشرق الأوسط، من هنا جاءت ردة الفعل في أوروبا في سلسلة الاعترافات، وفي الحملة التي قادتها كل من السعودية وفرنسا على الساحة الدولية لإنقاذ ليس حل الدولتين بقدر ما هو إنقاذ القضية الفلسطينية من التصفية.
لقد شكلت مبادرة الرئيس الأميركي التي وافقت عليها حماس انعكاسا لميزان القوى الجديد في المنطقة، فكما وافق حزب الله عمليا على نزع سلاحه، فإن حماس بموافقتها على مبادرة الرئيس ترمب. وبغض النظر عن الـ “لكن” فإنها عمليا وافقت على الخروج من المشهد وتحولها إلى تنظيم غير مسلح. مبادرة الرئيس ترمب في بنودها المتعددة، تضع قطاع غزة تحت الوصاية الدولية، وان موافقة القيادة الفلسطينية السريع عليها إنما جاء بهدف وقف الحرب ووقف المجزرة البشعة، ووقف سفك الدم الفلسطيني المتواصل بغزارة منذ السابع من أكتوبر 2023.