حين قررت اسرائيل وايران وقف اطلاق النار، تحركت الدبلوماسية الدولية في كل اتجاه، كما لو ان العالم كله كان يقف على حافة الهاوية. خلال ايام معدودة، تجندت العواصم الكبرى، وتدفقت الوساطات، وتكثفت الاتصالات، وصدرت البيانات الحازمة المطالبة بوقف التصعيد فورا. بدا الامر وكأن البشرية باسرها تنفست الصعداء. لكن في غزة، لم يسكت القصف، ولم ترفع الانقاض، ولم تفتح المعابر. وفي الضفة والقدس، لم تتوقف الاقتحامات والاعتقالات والمجازر اليومية. فلسطين كانت، وما زالت، خارج مشهد التهدئة. فالعالم الذي هرع لانقاذ المنطقة من نار الحرب، لم يتحرك لانتشال الفلسطينيين من اتون الابادة.
هذا التناقض الاخلاقي والسياسي لا يفاجئنا، لكنه يفرض علينا وقفة حقيقية. فالهدنة بين طهران وتل ابيب لم تكن فقط عملية لاحتواء التصعيد، بل كانت لحظة كاشفة لموازين الاهتمام، ولترتيب الاولويات في هذا الاقليم المختل. لقد تحرك العالم لحماية اسرائيل من خطر اتساع المواجهة مع ايران، بينما يواصل غض الطرف عن حرب مفتوحة تشن منذ اكثر من عام ونصف على غزة، دون توقف، دون خطوط حمراء، ودون ادنى التزام بالقانون الدولي او بالكرامة الانسانية.
ما جرى في الايام الماضية يبعث برسالة خطيرة الى الفلسطينيين: ان حياتهم ليست جزءا من المعادلة، وان موتهم المنتظم بات امرا اعتياديا، لا يوقظ ضميرا ولا يحرك مؤسسات. فحين تقتل الاف العائلات تحت الانقاض، ويمنع عنها الدواء والغذاء والماء، ولا تتحرك الامم المتحدة الا لتقديم احصاءات الموت، ندرك ان فلسطين لم تعد فقط خارج ميزان العدالة، بل خارج حدود الاهتمام ذاته.
الاخطر من ذلك، ان وقف التصعيد مع ايران يمنح اسرائيل فرصة استراتيجية لاعادة ترتيب اولويات عدوانها، وتوجيه كل طاقاتها الى الداخل الفلسطيني. فالمعركة مع طهران، رغم رمزيتها، لم تكن سوى محطة عابرة في عقل المؤسسة الاسرائيلية، التي ترى في الفلسطيني “الخطر الحقيقي”، ليس لانه يملك سلاحا او جيشا، بل لانه يملك فكرة، وهوية، وحقا يرفض الزوال. الهدنة هنا لا تعني تهدئة، بل تفريغا للساحة من التشويش، كي تتفرغ اسرائيل لاكمال مشروعها: قضم الضفة، تهويد القدس، اغراق غزة في الجوع، واعادة تعريف الفلسطيني كمشكلة امنية لا اكثر.
لا مبالغة في القول ان ما يحاك اليوم هو اكثر من استمرار للعدوان. نحن امام مرحلة يراد فيها اعادة تعريف القضية الفلسطينية من جذورها. لا بصفتها قضية تحرر، بل كمشكلة انسانية تتطلب ادارة لا حلا، وكمصدر قلق يجب تحييده لا معالجته. كل هذا يجري باسم “الاستقرار الاقليمي” و”تهدئة الاوضاع” و”منع التصعيد”، وهي العبارات ذاتها التي لطالما استخدمت لتقزيم القضية وتحويلها الى ملف تابع لصراعات غيرها.
في هذا السياق، تبدو الضغوط الدولية وكأنها تسير في اتجاه واحد: اعادة اعمار مشروطة لغزة، صلاحيات ادارية محدودة في الضفة، تأجيل نهائي لقضية القدس، وتهميش مطلق لحق العودة. اما السقف الاعلى الذي يعرض على الفلسطيني، فهو هدنة طويلة مقابل “تسهيلات” ومساعدات انسانية، تمنح بشروط امنية، وتسحب بتقارير استخبارية. هذه ليست تسوية، بل وصفة لتصفية، والمفارقة ان من يسوقها هم ذاتهم الذين يفترض انهم “رعاة الحلول” و”شركاء السلام”.
امام هذا الواقع، لا بد من اعادة بناء الموقف الفلسطيني على اسس مختلفة. فلا فائدة من انتظار تغير في مزاج العالم، ولا من الرهان على عدالة منتقاة. وحدها رؤية وطنية مستقلة، تنطلق من حقيقة الصراع، يمكنها ان تحفظ ما تبقى من مشروعنا الوطني. هذه الرؤية لا تتشكل من خلال البيانات، بل من خلال فعل سياسي حقيقي، يبدأ باستعادة الوحدة الوطنية، لا كشعار وانما كممارسة. فبدون وحدة تمثيلية حقيقية، تعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وفاعل، لا يمكن بناء اي موقف وطني جامع قادر على مواجهة هذا الانحدار.
كما ان المواجهة القادمة لا يمكن ان تكون تفاوضا على شروط البقاء، بل مقاومة شاملة ضد مشروع الالغاء. لا نريد العودة الى ادارة الازمة، بل الى طرح القضية كما هي: قضية شعب واقع تحت استعمار استيطاني، يواجه محاولات افناء، ويملك الحق الكامل في مقاومته بكل الوسائل المشروعة. واي تسوية لا تنطلق من هذه القاعدة، هي استسلام مقنع مهما تعددت اسماؤها.
ان وقف النار في الاقليم لا يمكن ان يقرأ كهدنة فعلية ما دامت غزة تشتعل، والضفة تسحق، والقدس تسرق يوميا. الهدنة الحقيقية تبدأ حين يتوقف القتل، ويرفع الحصار، وتستعاد الحقوق. وما لم يحدث ذلك، فان ما نعيشه ليس استقرارا، بل لحظة هدوء في قلب العاصفة، تستغل لاعادة رسم الخريطة على حساب الشعب الفلسطيني ودمه وكرامته.
لقد اثبتت هذه اللحظة مرة اخرى ان القضية الفلسطينية ليست جزءا من صراع محاور، بل هي البوصلة التي ترفض الانحناء. ولسنا بحاجة الى ان نكون في محور، ولا على الهامش. نحتاج فقط ان نكون فلسطينيين، على دراية بتاريخنا، وعلى تماس مع واقعنا، وعلى ايمان بان الحرية لا تمنح، بل تنتزع.
المعركة لم تنته. بل ربما تبدأ الان، بعد ان سقطت الاقنعة، وتكشفت التحالفات، وتعرى العالم امام دمنا المكشوف. ما نحتاجه اليوم ليس فقط ان نصمد، بل ان نفكر، ونبني، ونقاوم، لان ما يخطط لفلسطين لا يقل خطرا عن القنابل، بل هو الابادة بالصمت والتطبيع والتدجين.
وهنا، علينا ان ندرك ان معركتنا الحقيقية ليست في الرد على الاخرين، بل في استعادة انفسنا، وموقعنا، وقضيتنا.