انتهت 17 سنة من حكم غزة، تم خلالها تحويل كوارث الحروب إلى انتصارات وهمية، وكانت قد سبقتها سنوات الانتفاضة الثانية، بكل ما جرى فيها من مرارة على المستوى الإنساني، وخسارة كبيرة على المستوى السياسي، غير أن أصوات الشعارات فاقت أنين الوجع الذي ظل مقترناً في بيوت الفقراء المنكوبين.
من هنا نبدأ وكما ورد بحسب تقرير جديد لوكالة بلومبرغ يشير إلى ” أن حجم الأنقاض في غزة يكفي لملء صف من شاحنات القمامة يمتد من نيويورك إلى سنغافورة”. فالرقم المتوقع للأنقاض وفقاً للأمم المتحدة هو 42 مليون طن، وبحسابات رقمية ثانية، فإن هذا الحجم الكبير من الأنقاض من المستحيل نقله إلى خارج غزة وليس له مكان سوى البحر فقط، ما سيؤدي إلى إنشاء جزيرة كبيرة من خليط الألم والركام والتي مهما اختلفوا على اسمها، فإنها جزيرة فريدة من نوعها في الكون، هي اختصار قصة ما أنتجه المشروع الإخواني من مأساة لا توصف، طغت عليها كيمياء السياسة، ومزقتها الأيديولوجيا التي أصبحت في زماننا تفتك بالمجتمعات أكثر مما تفعله السيوف.
الصورة القادمة هي هدنة، بلا مادة سياسية تعالج ما مزقته الحرب، فهي بحسب القانون الدولي “اتفاق مع جماعة مصنفة لدى أمريكا بالجماعة الإرهابية”، وبتوصيف أكثر دقة “إن أمريكا رعت اتفاقاً ليس له أي استحقاق سياسي يصب في مصلحة حماس” وهذا هو خطأ حركة حماس القاتل، لأنها استبعدت السلطة الفلسطينية منذ بداية المفاوضات، فمسألة وجود حماس كطرف مفاوض لا يمنحها الحق القانوني الذي تُبنى عليه استحقاقات سياسية، ما يعني أن السلطة الفلسطينية كانت مظلة مهمة، كانت حركة حماس تستطيع الاختباء نوعاً ما تحت هذه المظلة، أمام القادم وهي ورقة المساءلة الدولية المؤجلة، والمرتبطة برعايا 23 دولة تضرر رعاياها أو قتلوا أثناء السابع من أكتوبر ما يعني أن الاتفاق مع حماس تنتهي قيمته المادية مع انتهاء ملف المحتجزين في غزة، وهناك مساءلة لما بعده.
هنا نعود إلى الملف الداخلي، فمسألة المعبر سوف تبقى معلقة بانتظار العودة لإحياء اتفاق 2005 وهو موضوع يطول ولا يمكن إنجازه مع الاتحاد الأوروبي بصحبة حركة حماس، التي ترغب بالعودة إلى الوضع السابق حينما تم فتح المعبر لدواعي إنسانية بعد انقلاب حماس وهذا ما لم يعد متاحا.
وأما في مسألة خط نتساريم الفاصل بين شمال وجنوب غزة، وتعقيدات الجانب الإنساني، فلا ضمانات على حلول دائمة فيه، ما يعني أن حركة حماس ستكون مقسمة جغرافياً إلى قسمين. فهي في شمالي غزة حيث يوجد قرابة نصف مليون مدني، وفي الجنوب حيث تكتظ المساحة المتاحة بأكثر من مليون ونصف مدني، مع عدم وجود مساحة كافية للتمدد، خصوصاً وأن مئات الآلاف الذين يفترشون ساحل البحر، يقترب منهم شتاء صعب، يفتح بوابة أعباء ما بعد الهدنة، والتي لا تختلف عما قبلها، وهو ما سيضع حماس أمام مواجهة حقيقية تصبح فيها شرطة حماس وأجهزتها الأمنية في مواجهة مباشرة مع مليوني إنسان منكوب، ما يعيدنا إلى ما شهدناه من سوء إدارة المسألة الإنسانية طوال الأشهر الماضية.
ففي المعادلة الأمنية ليس هناك ضمانات يمكن أن يحصل عليها قادة حماس على المستوى الأمني من حيث السلامة من الاغتيال، ناهيك عن حرب القيود والتي تعني أن خيارات حماس معلقة، في مهب الريح، فلا هي ستكون قادرة على إدخال الأموال إلى موظفيها، والذين سوف يتحولون وفي فترة وجيزة إلى عبء مالي كبير مع غياب حقائب المال التي كانت تتدفق شهرياً على القطاع، ولا هي ستستطيع مجرد الحوار على صعيد الإعمار، ولا هي ستملك أي ورقة.
خلال الأسابيع الأولى القادمة من الهدنة ستكون خيارات حماس تتجه للبحث عن السلطة الفلسطينية من جديد، وسوف تحاول استدراج السلطة على دخولها الى غزة واستلام ملف الإدارات المدنية، ما يعني البلديات، بينما ستعمل حماس على الاحتفاظ بملفي الأمن والعسكرة، ما يعني بالضبط أن على السلطة الفلسطينية في هذه الحالة أن تهتم بالملف الإنساني وبهذا تكون حماس قد تبرأت من المسؤوليات المالية عن المدنيين بالكامل بما في ذلك الموظفين التابعين لحكومتها، وستبدو العملية ظاهرياً بمثابة شراكة بين السلطة وحماس على الأرض، ولكن ذلك سيبقى في باب الفرضيات المعقدة، فمسألة تأمين بنية تحتية ولو محدودة خلال الأسابيع القادمة لأكثر من مليون ونصف نازح في الخيام ليست مسألة سهلة، ولا يمكن أن تتم بلا تعاون دولي، وهنا سنعود إلى قصة المعبر من جديد، ونعود إلى الدائرة المغلقة.
إشكالية عموم العقل الإخواني أن المدنيين هم أدوات المشروع، ولكنهم ليسوا جزءاً من المسؤوليات، وبالتالي عندما سيطرت حماس على قطاع غزة، كان يحمل بنية اقتصادية تعود إلى عشرات السنين، ومع ذلك لم تستطع حماية هذه البنية، فانتهى الأمر بوصول أكثر من 70 بالمئة من سكان غزة كانوا يعيشون على المساعدات الإنسانية قبل السابع من أكتوبر، قدمت أغلبها الدول العربية، فما بالنا اليوم والناس في الخيام بدلاً من البيوت، ولا عمل ولا حياة.
فما تقوله الأمم المتحدة أن غزة تحتاج 80 عاماً حتى تعود كما كانت من قبل. يأتي هذا في الوقت الذي بقيت حماس فوق جراح الناس بينما غزة التي نعرفها قبل السابع من أكتوبر ماتت وبات أناسها يبحثون عن شريان الحياة.