بولُ البقرةِ أم بولُ البعير

سهيل كيوان

في شبه القارة الهندية صراعٌ قديم بين الهندوس والمسلمين يعود إلى حوالي ألف عام، يطفو الصراع تارةً على السّطح، ثم يغيب ويهدأ تارة أخرى.
آخر هذه المواجهات العسكرية كانت بين الهند وباكستان في الأسابيع الأخيرة، وبطبيعة الحال فإن الاستقطاب حمل بعداً دينياً بين الهندوس والمُسلمين.
سخر المسلمون في أرجاء العالم من تسجيلات بالصوت والصورة، تُظهر الهندوس وهم ينقلون مجسّمات لما قيل إنها تمثّل آلهة لوضعها في أمكنة آمنة خشية تعرّضها إلى الأذى خلال الحرب!
سخر المسلمون من الوسيط العاجز عن حماية نفسه، وهذا ذكّر المسلمين بالأوثان قبل الإسلام.
الهندوس لا يعبدون التمثال نفسه، بل يجسدون صورة للإله الذي يقدسونه كما يتخيّلونه، وهي مجسّمات كثيرة لعدد كبير من الآلهة، يتقربون من خلالها إلى الإله، وهي تشبه قبور وأضرحة الأولياء الصالحين عند بعض المسلمين الذين يتواصلون من خلالهم مع الله، ويقدّمون لهم الاحترام الكبير على سيرتهم وما يحاك حولهم من كرامات.
الهندوس يزيّنون هذه التماثيل في المهرجانات بالزهور ويعطّرونها ويحتفون بها، وهي تجسّد آلهة كثيرة وليس واحداً فقط.
مفهوم الإله مختلف عند الهندوسي، فالله عند المسلم لا يمكن رؤيته ولا لمسه أو شمّه أو تذوّقه أو تخيّله أو تجسيد شكله، وهو واحد أحد لا شبيه له، حتى إنّ الإسلام حرّم النحت وإنشاء التماثيل، وهذا سببُ تخلّف فنّ النحت والتصوير عند المسلمين وازدهار فنّ العربسك.
ظهر ضباط هنود يغسلون وجوههم ببول البقر، أحدهم ملأ حفنة منه وغسل وجهه وشرب! العقيد أو المقدّم أو المشير أو العماد يغسل وجهه من بول البقرة ويشرب منه.
بعض المسلمين سخر وكتب إن أفضل وسيلة دفاع باكستانية هي استخدام الأبقار كدروع ووضعها حَوْل ثكناتهم العسكرية، فلن يقدم الهندوس على قصفها.
هناك من المسلمين من يعتقد أنّ بول البعير مفيد صحيّاً ويعالج بعض الأمراض، خصوصاً الجلدية منها، وهناك من يشربه بهدف العلاج.
هنالك دراسات لباحثين من العرب حول فائدة حليب الأبل وبولها، وجاء في بعض المصادر أنّ ابن سينا وصف حليب النوق وبول البعير كمادة علاجية، وهنالك حديث شريف مصنّف على أنّه صحيح، جاء فيه أنّ قوماً جاؤوا إلى المدينة النّبويّة فمرضوا، فأشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشُّرب من ألبان الإبل وأبوالها، فصحّوا وسمِنوا.
إلا أنّ بول الإبل لم يُذكر كمادة مستخرجة من جسد مقدّس، بل في سياق فوائد تركيبة حليبها وبولها الكيماوية، رغم أنّ الأبل ذكرت في القرآن الكريم للتأمّل في خلق الله» أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت».
سُئل المهاتما غاندي عن سرّ تقديس الهندوس للبقرة فقال: «إنّ والدتك ترضعك عاماً واحداً أو عامين، بينما تمنحك البقرة حليبها طيلة حياتها».
لا يتقبّل الهندوسي السُّخرية من عقيدته، ولا يقبل أن يعتدي أحدٌ على البقرة، فهذا خطٌّ أحمر، مثلما أنّ المسلم يعتقد بقدسية ماء زمزم وبأنّها تشفي إذا ما شُربت على نية الشّفاء، ولا يتقبل المسلمُ سخرية أحد من طقس رمي الجمرات ورجم إبليس.
يبلغ عدد الهنود مليارًا ونصف المليار، وبلا شكٍّ أنّهم يدعون آلهتهم بأنْ تتدخل وتنصرهم على «القوم الكافرين»، مثلما يدعو المسلمون الله أن ينصرهم على الأقوام الكافرة.
بلا شك أن هنالك هندوساً يفكّرون خارج الصندوق، ولا يؤمنون بعقيدة آبائهم وأجدادهم، ولكنّهم يحترمونها كتراث لأمّة عظيمة.
الأمور ليست في هذا التّبسيط الذي عادة ما يستخدمه الطرف المعادي، مثل اتّهام المسلمين بأنّهم يُقبلون على الموت والقتال فقط لأجل الفوز بسبعين حورية في الجنة. لإظهار الدافع الأساسي بأنه شبقٌ بهيمي، وليس هدفاً سامِياً هو الحريّة، ولا ننسى استخدام الأنظمة بكثافة لفرية «جهاد النّكاح» التي ألصقوها بكل معارضٍ للنظام، في مختلف بقاع الوطن العربي.
وماذا مع المسيحي العربي إذا انضم للمقاومة واستشهد، يوصف بأنه ضالٌ ومغرّرٌ به، أو طامح إلى البطولة الشّخصية والتّزعم، وعلى الأغلب يتّهم بأنّه غير مستقر نفسياً.
البقرة في الديانة الهندوسية ليست بالتبسيط الذي يراه المسلم أو غيره من أتباع ديانات أخرى، وخصوصاً البعيد منهم عن تلك المنطقة، ولم يزُرها، وتأثّر بالدّعاية التّي تجعل من كل قضية إما أسود أو أبيض.
نظرة الهندوسي إلى البقرة لا تخلو من المنطق، فهي تعطي الحياة من خلال حليبها الذي يعتبر مادة طاهرة يستخدمها في طقوسه الدينية، إضافة إلى أنّها مادة غذائية أساسية. البقرة تطعم من حليبها أعدادًا كبيرة من الفقراء والمساكين، فكيف لا يكون جزاؤها الاحترام والتّقديس، خصوصاً في بلد فيه نسبة عالية من الفقراء! كيف لا تكون البقرة مقدّسة لدى فئات واسعة لا تجد سوى ضرع بقرة مصدراً لغذائها؟
رعاية الأبقار في الهند وخصوصاً في الأرياف، ضرورة حياتية. إضافة إلى حليبها، فهي تُستخدم للعمل والنّقل وحرث الأرض، إضافة إلى روثها الذي يستخدم وقوداً.
تُذكر البقرة كمخلوق مقدّس في النّصوص الدينية الهندوسية القديمة مثل المهرباهراتا والفيدا، إضافة إلى أن (كريشنا) أبرز الآلهة الهندوسية، كان راعي بقر. أما البقرة (كاميادينو) فهي بقرة سماوية قادرة على تحقيق المعجزات.
كذلك فإنّ مبدأ اللاعنف من المبادئ الأساسية في الديانة الهندوسية، وهذا كان سلاح المهاتما غاندي في محاربة الاستعمار البريطاني، مقاومة من غير عنف.
مبدأ اللاعنف يشمل جميع الأحياء وليس الأبقار فقط، يعتبر ذبح البقرة لتناول لحمها عملاً غير أخلاقي، وفي بعض الولايات الهندية يُعتبر ذبحها أو نقل لحمها مخالفةً قانونيةً تصل عقوبتها إلى السّجن مدة عشر سنوات، وتعتبر في الأرياف واحداً من أبناء الأسرة، ويطلقون عليها أسماء مثل البشر. هذا ليس غريباً، فالبقرة في الرّيف الفلسطيني لها تسميات، كان لجدّي بقرة اسمها تَقوى.
كالعادة في كل مكان، ممكن لمتطرفين وانتهازيين استغلال المعتقدات ضد الخصوم السياسيين والأقليات الدينية والقومية الأخرى، هذا يوجّه حالياً ضد المسلمين في الهند، من قبل ناريندرا مودي زعيم حزب بهاراتا جاناتا القومي المتشدّد.
في بعض المناطق يوجد «بيوت عجزة» للأبقار المسنّة، حيث يقدّمُ لها متطوّعون ومتبرّعون الطعام. إضافة إلى فوائدها، فإن تركها منطلقة يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة، حيث في الهند أكثر من 300 مليون بقرة.
هنالك حيوانات أخرى تحظى بالاحترام والتّبجيل مثل الفيل والفأر والثعابين خصوصاً الكوبرا والقردة والكلاب، ويعتبر الطاووس الأزرق الطائر الوطني للهند.
للحيوانات معابد وتقام لها مهرجانات، وذلك لارتباط كلِّ حيوان منها بإله معيّن.
الإبل والأبقار تقدّم الكثير من الخير للإنسان، وغيرها الكثير من الحيوانات والبهائم، وتبقى فرص البقاء لمن يحسن إدارة الصراع مع تحدّيات الطبيعة وغيره من المخلوقات، وأخطرها الحيوان الذي يدبُّ على اثنتين، الذي لا يشبع من لحم أخيه الإنسان.