ليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل بوقف المجزرة المستمرّة على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها إدارة جو بايدن من أجل وقف حرب غزّة. كشفت تلك الحرب أن لا صوت يعلو، في إسرائيل، على صوت بنيامين نتانياهو.
توجد معركة كسر عظم بين “بيبي” وبايدن الذي يمتلك نقطة قوة وحيدة. تكمن نقطة القوة هذه في أنّه لم يعد مرشحا للرئاسة ويستطيع بالتالي الذهاب بعيدا في انتقاد رئيس الوزراء الإسرائيلي من دون خوف من إرتداد ذلك عليه شخصيّا في الداخل الأميركي. هذا لا يعني أنّ بايدن بات يمتلك حرّية وقف تزويد إسرائيل الأسلحة والذخائر التي تحتاجها، وهي الورقة الأميركيّة الأهمّ في العلاقة الأميركيّة – الإسرائيلية.
لا يستطيع بايدن، على الرغم من تضايقه الشديد من نتانياهو، تجاهل أنّ عليه مراعاة وضع المرشحة الديموقراطيّة كمالا هاريس. تواجه كمالا هاريس الجمهوري دونالد ترامب ولا يكنها تحمّل نتائج إتخاذ موقف حاسم من إسرائيل من جانب إدارة تشغل فيها موقع نائب الرئيس…
انتقد الرئيس الأميركي نتانياهو في ضوء إفشاله صفقة الرهائن مع “حماس”، لكنّ ذلك ليس كافيا. لا يمكن أنّ يسقط رئيس الوزراء الإسرائيلي سوى بسبب ضغط داخلي. الى الآن، نجد ضغطا داخليّا متزايدا على نتانياهو، خصوصا في ضوء إعدام “حماس” ست رهائن إسرائيلية أخيرا. إلى متى يستمر هذا الضغط الذي شارك فيه إتحاد النقابات العمالية (الهستدروت)؟
الواضح أن لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي قدرة كبيرة على المناورة. في أساس تلك القدرة، ذلك الرابط الذي يجمع بين أحزاب اليمين الإسرائيلي. يعرف كلّ حزب من أحزاب اليمين أن انفراط حكومة نتانياهو سيعني الخروج من السلطة. لم يعد الأمر متعلقا بالمستقبل السياسي لـ”بيبي” فحسب، بل صار أيضا مصير كلّ حزب من أحزاب اليمين مرتبطا بالمصير الذي ينتظر شخصا محدّدا (نتانياهو) لا يمتلك في الواقع سوى مشروع واحد هو مشروع إستمرار حرب غزّة أقلّه في الأشهر القليلة المقبلة.
يظلّ أخطر من ذلك كلّه أنّ “بيبي”، في لحظة وقوع هجوم “طوفان الأقصى” الذي نفذته “حماس” في السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي، إتخذ قرارا بحرمان الحركة من إستخدام ورقة الرهائن الإسرائيليّة. يبدو من خلال كلّ ما يقوم به “بيبي” أنّ مصير الإسرائيليين، بمن في ذلك الذين يحملون الجنسيّة الأميركيّة أيضا، لا يهمّه بأي شكلّ. يبدو مستعدا للتعاطي مع هذا الموضوع من دون التحلي بأي شعور إنساني. هذا خروج عن السياسة الإسرائيليّة التقليدية التي تضع انقاذ الرهائن في مقدّم الأولويات. ربّما كانت المرة الوحيدة التي رفضت فيها إسرائيل الدخول في مساومات تتعلق بالرهائن، ما حصل في ميونيخ في العام 1972 عندما احتجز فدائيون فلسطينيون مجموعة من الرياضيين الإسرائيليين كانوا يشاركون في دورة الألعاب الأولمبية وقتذاك.
فوق ذلك كلّه، لا يمكن تجاهل سعي “بيبي” إلى متابعة حرب غزّة وتوسيعها. ليس سوى ذلك سوى محاولة للإستفادة إلى أبعد حدود من “طوفان الأقصى” لتنفيذ خطة مستحيلة تتمثّل في تصفية القضيّة الفلسطينية.
بات واضحا أنّ الأمل في وقف حرب غزّة يقوم على حصول ضغوط داخليّة كبيرة على نتانياهو الذي سيستغل الشهرين اللذين يفصلان عن موعد الإنتخابات الأميركيّة إلى أبعد حدود معتمدا على أنّه لا يزال يتمتع بالقدرة على المناورة في داخل إسرائيل من جهة وعلى وقوف العالم متفرّجا على ما يرتكبه من جرائم امتدت لتشمل الضفّة الغربيّة من جهة أخرى.
تبقى نقطة واحدة في غاية الأهمّية تتعلّق بمعبر فيلادلفي الذي يفصل بين رفح والحدود المصريّة. ماذا لو خرج المجتمع الدولي، بغطاء عربي واميركي وأوروبي، بخطة مدروسة تؤدى إلى دحض ما يتحدث عنه نتانياهو عن تهريب أسلحة إيرانيّة إلى “حماس” عبر المعبر؟
ثمّة حاجة إلى موقف عربي جدّي، يتحلّى في الوقت ذاته بمقدار كبير من الشجاعة، يسمّي الأشياء باسمائها ويرفض بقاء المنطقة تحت رحمة التطرّف والمتطرّفين. لا شكّ أن الدول العربيّة تفادت، في معظمها، إتخاذ موقف مؤيّد لـ”حماس”، بما في ذلك النظام السوري. وحده لبنان، بسبب سيطرة “حزب الله”، الذي ليس سوى فصيل في “الحرس الثوري” الإيراني، فتح جبهته الجنوبيّة. كلّفه ذلك غاليا وسيكلّفه أكثر في المستقبل في ضوء الدخول في لعبة إيرانيّة لا مصلحة له فيها.
عندما تكون هناك خطة واضحة ذات تفاصيل دقيقة، يمكن وضع حدّ للبرنامج الذي ينفذه نتانياهو، وهو برنامج لا يتمتع بأي أفق سياسي. من واجب العرب، إنطلاقا من معبر فيلادلفي الذهاب إلى التعاطي مع الواقع بما يضمن العودة إلى السياسة. يمكن في هذا المجال الإستعانة بنقطتين من الخطاب الذي القاه الملك محمّد السادس قبل أسابيع قليلة في مناسبة مرور ربع قرن على إعتلائه عرش المغرب. قال محمّد السادس بالحرف الواحد:
“- أولاً: إذا كان التوصل إلى وقف الحرب في غزة أولوية عاجلة، فإنه يجب أن يتم بموازاة فتح أفق سياسي، كفيل بإقرار سلام عادل ودائم في المنطقة.
– ثانياً: إن اعتماد المفاوضات لإحياء عملية السلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يتطلب قطع الطريق على المتطرفين، من أي جهة كانوا”.
ثمة نقاط أخرى تطرّق إليها العاهل المغربي، لكنّ هاتين النقطتين تصلحان مدخلا صالحا لمواجهة المتطرفين في المنطقة، الذين من بينهم رئيس الحكومة الإسرائيليّة الذي يتطلّع إلى مزيد من الدمّ بدل البحث عن قليل من السياسة.
إنّ البحث عن حلّ في معبر فيلادلفي يمكن أن يكون بداية لعمل عربي مشترك بدعم دولي لوضع حدّ لمأساة ليس ما يشير إلى أن الولايات المتحدة، بوضعها الحالي، تستطيع وقفها والحؤول دون إنتقالها إلى الضفّة الغربيّة… وربّما لبنان في وقت لاحق!