في حوار مع الأخ وليد ظاهر من النشطاء الكبار والقادة في الساحة الأوربية من أجل فلسطين والقضية العربية الأولى، وقضايا التحرر عامة بالعالم، تعرّضنا لمفاهيم الثورة والمقاومة والداعمين للقضايا العادلة، وبالنظر للشخصيات وأنواعها وكيفية معالجتها أو نظرتها وتحليلها للأمور فرأي الأخ وليد أن النظرات وفق ما رأي هذه الأيام العصيبة على الشعب الفلسطيني والعربي بل والعالم الحر هي ثلاثة مرتبطة بالشخصيات التي منها الشخصية العسكرية والشخصية السياسية والشخصية الشعبوية.
“أنا لا أخشى الانسان الذي يفكّر”
وبالحقيقة فإن بلورة رأي حول أي فكرة عامة يفترض الإلمام والقراءة والحوار والسؤال والبحث والفحص والنقد ثم إعمال العقل بين المعلومات السابقة أو المستقرة داخل الذهن مع الأفكار الوافدة اليه، ومن خلال امتلاك منهج يجعل من تقابل الأفكار مدعاة للحوار بينها أو الصراع، فكرة تطرح أو تناطح فكرة أوتتغلب عليها لتُقصيها أو تنفيها أو لتهادنها وتصل لتوافق معها أوتأخذ منها وتضيف منتجةً فكرة أخرى معدّلة أو منقحة أو جديدة كليا (إبداعية) وهذا الجهد العقلي الذي يفترض حالتي: الصراع والانتزاع هو ما نسميه التفكير.
قصدت الإشارة لما سبق حول مفهوم التفكير كي لا يُفهم أن الخواطر أو الآراء العشوائية أوالإيمانيات بالمسلمات السياسية تمثل فكرًا بقدر ما هي بالحقيقة تعبير عن إحساسات او انفعالات ربما مؤقتة أو غير ناضجة تمامًا كالورقة في مهب الريح.
وهنا دعونا نتأمل معًا قول الإمام محمد الغزالي: “أنا لا أخشى على الإنسان الذى يفكّر وإن ضلّ، لأنّه سيعود إلى الحق، ولكني أخشي على الإنسان الذي لا يفكّر وإن اهتدى، لأنّه سيكون كالقشة في مهب الريح.” حيث ربط الإيمان بالمسلمات حتى العقدية بالتفكير.
فكرة السياسي والعسكري سواء بالشخصية أو الخطاب معروفة، أما فكرة الشعبوية فلقد تعملقت -رغم قدمها حسبما قرأت ضمن آراء محددة-بالآونة الاخير في القرن 21 ما استدعى في ظل الأزمات والكوارث ومنها كارثة ونكبة غزة (2023-2024م) وفلسطين أن ننظر عبرها للمفهوم ونتبيّنه، واستكمالًا لحوارنا مع الأخ وليد ظاهر.
لمن يرغب الاطلاع على المفهوم العام للشعبوية كفكرة وشخوص وأحزاب، أوالشخصية السياسية أو العسكرية فإن الشابكة تحفل بالكثير ولكنني سأتكلم حول المصطلحات وفي سياق رؤيتي وضمن إطار التجرية الثورية تجربة المقاومة الفلسطينية الحديثة.
ما هي الشعبوية؟
عمومًا يعرّف الكاتب السوداني تيسير حسن إدريس-في صحيفة الراكوبة عام 2015م- الذي ذاق مر دغدغة العواطف كما يسميها بين الأحزاب، أن الشعبوية: “فلسفة سياسية أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية (التضليلية) ودغدغة عواطف الجماهير بالحجاج الجماهيري لتحييد القوى العكسية” .
ويقول ذات الكاتب في الإطار التنظيمي السياسي -الذي وكأنه يشخص الحالة التنظيمية الفلسطينية اليوم- أن: “سقوط البعض دون بصيرة في فخ الشعبوية ناجمٌ عن إهمالِ التثقيفِ الذاتيِّ، في زمنٍ انسحبت فيه الأطرُ التنظيمية -من أحزاب ومنظمات تقدمية تحت ضغط الدكتاتوريات المتعاقبة- من ساحةِ التأهيلِ الفكريِّ للعضوِ المنتمي، لدرجة أصبح فيها العضو الناشط يجهل الخط العام لتنظيمه؛ بل لا يكاد يميز بين الفكر والسياسة، ولا يفرق بين حقليهما، حاله كحال “المُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى”، عاجزا عن مقصده”.
كلنا في التنظيمات السياسية الفلسطينية نحب أن نكون شعبيين جماهيريين مرتبطين بالقواعد أي أن نكون جزء من الناس ومعبرين عنهم ونتعلم منهم ونعلّمهم. وللحركات الوطنية ومنها حركة التحريرالوطني الفلسطيني-فتح قواعد المسلكية الثورية بالمجال الجماهيري باعتبارها تنظيم طليعي-جماهيري معًا، لكن ممّا استقر بذهني أن الشعبوية وليس (الشعبية) -تعني بفئة خاصة أوجماعات ضد النخبة (النخبوية) بالمجتمع من نُخبة اقتصادية وثقافية وسياسية وإعلامية ومجتمعية، وقد تقترب في الحضارة العربية الاسلامية-بالاسهامات المسيحية المشرقية من المفهوم المرتبط بالغوغاء أو الرعاع كما أسماهم علي بن أبي طالب (رض) .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتنسب لإمام المعتزلة واصل بن عطاء أن الغوغاء هم “الذين إذا اجتمعوا ضرّوا، وإن تفرقوا نفعوا”، وتم التحذير منهم في إطار فهمنا الحضاري التاريخي فهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولك النظر فيما تلى هذا الأمر من فتنة وكوارث حلت بالأمة حتى اليوم.
ومن النوادر في هذا الشأن –كما روى أبوبكر الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد-ما فعله الخليفة المهدي، فقد كان في مجلس عام للناس فدخل رجل وبيده نعل في منديل! فقال يا أمير المؤمنين: هذه نعلُ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك!
فقال: هاتها! فقبّلها وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم وانصرف، فقال لجلسائه: أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرَ هذه النعل فضلا على أن يلبسها؟ ولو كذّبناه لقال للناس: “أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها علي! وسيكون من يصدقه أكثر ممن يدفع أو ينكر خبره؟ (تاريخ بغداد 5/ 394).
الغوغاء والشعبية والشعبوية
يقول المفكروالعالم العراقي الكبيرد.علي الوردي في كتابه “الأحلام بين العلم والعقيدة”: “سأصارح القارئ بقول قد لا يرتضيه مني، وهو أني كنت في العهد البائد أخشى من غضب الحكام، وقد أصبحت في العهد الجديد أخشى من غضب “الغوغاء”، وأرجو من القارئ ألا يسيء فهم قولي هذا، فالغوغاء ظاهرة اجتماعية موجودة في كل مجتمع، وكلما اشتد الجهل في بلد ازداد خطر الغوغاء فيه”. إذن هو يفترض الجهالة كآلية توليد للغوغاء أو بالفهم الحديث الشعبوية.
الشعبية وليست الشعبوية، والجماهيرية كانت لصيقة بالتنظيمات الفلسطينية المقاومة، وباعتقادي ارتباطًا بالفكر الماركسي الذي آثر تسمية تنظيماته وأحزابه بأحزاب الشعب في صراعه الطبقي ضد الرأسمالية ممثلة بالنخبة الاقتصادية السياسية الثقافية، لذا فإنه في إطار الثورة والمقاومة الفلسطينية تشكلت على سبيل المثال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ثم انبثقت الجبهة (الشعبية) الديمقراطية ولاحقًا في فلسطين ظهر حزب الشعب أي ضمن الأيديولوجية/المفهوم الاشتراكي الذي يجعل الشعب هو المرجعية بالأيديولوجية المعبرة مقابل الرأسمالية أو الامبريالية، وبالتالي يخوض نضاله وهذه شعبية. وبالطبع رغم اقتراب ذلك المعنى من الفكرة الشعبوية أي من زاوية أنها من الشعبية والشعب مقابل النخبة المتسلطة.
عودة للشعبوية فمفهوم الشعبوية واسع ومطاط وهناك إفراط كبير وإساءة في استخداماته ما يعرضه للنقد الدائم، ويرى الباحث الفرنسي “بيير أندريه تاغييف” أنه من الخطأ مساواة الشعبوية مع “الديماغوجية” (الديماغوجية او التضليلية بمعنى: خداع الجماهير وتضليلها بالشعارات والوعود الكاذبة). فالديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه. ويقول الباحث الفرنسي ذاته بأن للشعبوية عددًا من الخصائص الأولية. أولها أنها تمثل ثورة ضد النخبة. وهي تزعم أن السياسة هي شيء سهل! ويمكن إدراكها بالنسبة للجميع وأن اعتبارها معقدة يعود إلى مكيدة وضعها النخبويون لإبقاء المواطنين العاديين خارج عملية صنع القرار. ويرى “تاغييف” أن معظم جمهور الخطاب الشعبوي من الأميين والفقراء خصوصا في المناطق الحضرية، وهي الشريحة التي وصفها كارل ماركس بنبرته النخبوية المترفعة بـ “البروليتاريا الرثة” أو ب”قاع المجتمع”.
التهييج والتضليل
التفكير العسكري أو الشخصية العسكرية شخصية تفهم معنى القوة واستخدامها وتصدر أحكامها من الواقع التقدير للقوى العسكرية وما يتصل بها من قوى اقتصادية. أما الشخصية السياسية فهي التي تتعامل مع الوقائع بمنطق القائم وفهم المتغير وتقديره والتعامل معه بمعنى الخوض فيه أو تحاشيه أو منعه وردعه أو مقاومته ضمن سلسلة من الخيارات في قمتها مصلحة البلد اوالنظام او الحاكم، القائد…أو كل هذه العوامل بمعنى أن الفكرة هنا أن العسكري يحصر جل تفكيره بسياقات القوة المادية والمعنوية المرتبطة بها فيما السياسي يستفيد ويستثمر القوة العسكرية وفي الحالتين فإن أي من الشخصيتين عقلانيتين على خلاف نظرتيهما لا تقدمان أحلامًا اوآمالًا زائفة أو هكذا ما يجب أن يكون، فيما أن الشخصية الشعبوية بمفهومنا هي شخصية غير عقلانية عاطفية تبسيطية انفعالية.
ما قد يتشابه مع فكرة الشعبوية بالمصطلح الرائج كتبنا في موضوع ثلاثية: التهييج والتضليل ثم التحشيد وصولًا الى التجنيد القائم على إثر نكبة فلسطين الجديدة في غزة ما لم يعجب الكثيرين، حيث التهييج الانفعالي العاطفي المُريح بتسفيه العقل وتسفيه التفكير المخالف وتجريم النقد، وربط الآمال الشعبية والرغبات الخيالية والأحلام بحبل غليظ بطروحات بسيطة سواء دينية أو شبه منطقية تضليلية تخلط الأكاذيب بالحقائق، أو رمي الأمر على المستقبل باغتصاب فهم الآيات القرآنية، ليتهيأ للشخص إن انفعاله (يفترض أنه رأيه وفكره) صحيح وهو مقبول ما يسهل بناء عليه تحشيده ضمن آخرين (إمعات جمع إمعة بمصطلح الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديث الشريف) وراء الفكرة والحلم والحزب ليتم بالمرحلة الثالثة بعد التبسيط وحقن الاكاذيب واغتصاب المقدس بالتجييش التجنيد والتحزيب لمصلحة حزب معين وأشخاصة وتقديس كل ما يقولونه لمجرد انه جاء من ذات المشكاة دون إعمال العقل أو النقد مطلقًا.
خليط الحقائق والأكاذيب والوعود
الشعبوية برأينا نحن إن جوّزنا استخدام المصطلح وإن كنا نفضل التهييج (والتضليل) والتحشيد والتجنيد ضمن مفهوم الغوغائية أو الرعاعية أو الإمعات تعني: مخاطبة غرائز الناس وأحلامهم، وتعني تقديم القضايا المعقدة بتبسيط مخلّ ومقصود، وتعني تقصّد الخداع ومنه خداع الذات مادام الهدف هو التحشيد للحزب أو الدولة أو القائد الألمعي، وتنحو الشخصية الشعبوية لرفض القراءة أوالتعلم أو التعمق بالأمور وترفض الفحص والتدقيق. فالأمور لديها بديهية مسلّمة خاصة متى ما جاءت من المصدر المحدّد (الذي تم التجنيد له)، ومن هنا فالتفكير العقلاني لا قيمة له ويعدّ مغامرة مُتعبة لا لزوم لها مادامت الوجبة جاهزة! فلا شيء يقف أمام الحق الأبلج والنور الساطع والمقدّس غير الأعوج! والغوغائي لا يحترم الآخر فكل ما (يوجع رأسه) أويسلبه رأيه (انفعاله وتهيؤاته) من عقل أو منطق يتم مقابلته بخرق آداب الحوار والحديث بالشتم والقذف والإهانة والسخرية والتحقيرالشخصي، والاتهام. ولا بديل عن التخوين والتكفير باعتبارهما المخرج الأعظم من أزمة عدم توافق التحليل البسيط مع المنطق المخالف.
يقول الكاتب الإيراني أمير طاهري: “تعمل الشعبوية بأفضل شكل حينما تقدم خليطًا من الحقائق والأكاذيب. فعلى سبيل تستطيع أن تسلط الضوء على المعاناة الحقيقية للشعب لكنها تمزجها مع وعد بتجاوز هذه المعاناة وهذا هو وعد كاذب تماما”. ويضيف قائلًا أن هناك “صفة سلبية اخرى تكتسبها الشعبوية تتمثل في تصميمها على التعويض بأهداف سياسية ـ اجتماعية عقلانية بأخرى لا عقلانية.”
الغوغائي أو الرعاعي (من الرعاع بمصطلح علي بن أبي طالب-رض) مؤمن نعم ولكن بعقل بلا عِقال لذا هويتساوق مع الناس على فرضية مسلّمة لديه أنه منهم، أو يعبر عنهم، أو كما يتم تصوير ذلك من سدنة المعبد الذين يرسمون الخطوط ويضعون الخطط في ظل الاعلام المضلل هذه الأيام.
دعني بوضوح أطرح على محاوري الاخ وليد ظاهر أن التفكير العسكري مقبول في إطاره لأنه عقلاني ومحدد الأهداف، ومطلوب في سياقه وكذلك الأمر بالسياسي كما أسلفنا وإن كنا نرى أن السياسي خاصة من المفترض ضمن وعينا الحضاري أن يكون أخلاقيًا ويتعامل مع القضايا الكبرى من حيث أنها قضايا كبرى، أي قضية تهم الأمة والمجتمع ككل بغض النظر عن المصالح الفئوية للدول أو السلاطين الحاكمين، والا فما قيمة الفهم الثقافي المستنير بحضارتنا المتميزة حين التصدى للمفاهيم الغربية الاستهلاكية التسلطية الإلحاقية للآخر، والاستئثارية