فى الأيام الماضية، كانت القاهرة على موعد جديد مع التاريخ، تألقت أضواؤها وهى تستقبل وفوداً من دول العالم، جاءت لتشهد افتتاح المتحف المصرى الكبير؛ ذلك الصرح الذى يطل على الأهرام كأنه حارس للزمن، يجمع فى قلبه ما تبقى من أنفاس المصريين القدماء، وهمس الكهنة، ونقوش الحجر التى لا تزال تنبض بالحياة بعد آلاف السنين.
كانت ليلة الافتتاح تاريخية، حتى ثار جدل حول من الذى كان يحتفل بمن؟ هل التاريخ هو الذى يحتفل بمصر، أم أن مصر الحاضر تُقدِّم للعالم تاريخها فى احتفال مهيب؟.
ولذلك امتزج الفن بالتاريخ، تحت أضواء الحفل، ووقف الرئيس عبدالفتاح السيسى يقول للعالم: ها نحن أحياء فى الذاكرة والروح، وفاعلون فى الحاضر، ومؤثرون فى المستقبل.
لكن -وعلى الجانب الآخر من المشهد- ظل صوت آخر يصرخ فى الظلام، يرفض هذا الاحتفاء بالحجر، ويقرأ فى التماثيل المصرية القديمة معصية قديمة تُطارد البشر، ويرى حضارتنا القديمة حضارة شرك وأوثان، ذلك هو الخطاب العقائدى لجماعة الإخوان المسلمين، الذى رأى فى الآثار الفرعونية والتماثيل «رموزاً للشرك» لا «شواهد على التاريخ»، وفى المتحف بيتاً للوثنية لا جامعة للمعرفة.
فحين نشأت جماعة الإخوان المسلمين فى العشرينيات، كانت قضية الهوية محوراً وطنياً شغل مصر كلها، ففى زمن كان المصريون يتغنون بـ«إحياء مجد الفراعنة» وقصائد الشعر التى كتبها أحمد شوقى تمجيداً فى عظمة حضارتنا وتفردها، إذا بشاب صغير لم يعرف أحد له أصلاً اسمه حسن البنا أفندى يرفع راية «إحياء الأمة الإسلامية» وكأن الإسلامية دخلت فى نزاع تاريخى مع المصرية، أو كأن إحياء الحضارة المصرية القديمة سيقضى على الدين ويبعده عن مسار الحياة.
لم يتحدث «البنا» عن الآثار صراحة، لكنه كتب فى «رسالة المؤتمر الخامس»: «نريد أن نبنى الإنسان كما أراد الله، لا كما صنعه الفراعنة والطغاة».
بهذه العبارة الملتبسة، وضع حجر الأساس لخطاب يرى فى الحضارة القديمة موضعاً للازدراء ودرساً للعبرة لا للفخر، وفى التماثيل والآثار التى لا مثيل لها فى العالم رمزاً للشرك لا للجمال والفن والعبقرية.
وهكذا تشكلت النواة الأولى لعقيدة الإخوان المنحرفة، ثم جاء المنظِّر الأكبر للإخوان، سيد قطب، الذى جعلوه سيداً لهم ولأفكارهم، لم يكن سيد قطب تلميذاً مخلصاً لـ«البنا» بقدر ما كان امتداداً غاضباً له.
وكان من أثر هذا الفكر الغاضب أن اعتبر كل ثقافات العالم شركية وجاهلية، وأن المسلم الحق يجب أن يعمل على هدم تلك الجاهلية برموزها وأفكارها، لذلك نجده فى «فى ظلال القرآن» و«معالم فى الطريق»، يحوِّل رفض «البنا» الرمزى للحضارة المصرية القديمة إلى موقف لاهوتى صارم.
فكتب عن فرعون بوصفه الرمز الأبدى للطغيان الإنسانى، ولا تثريب عليه حين قال ذلك، ولكنه سحب رأيه عن فرعون موسى إلى كل الحضارة المصرية القديمة، وجعل كل ملوكها فراعين مثل فرعون موسى، وقال عن التماثيل: «ليست حجارة صامتة، بل رموز لجبروت يُنازع الله فى ألوهيته».
وفى تفسيره لقصة إبراهيم عليه السلام وكسره للأصنام، وسّع المفهوم ليشمل كل تمثال «يُرفع فوق الناس»، حتى وإن كان فى متحف، المسلم الحق عنده يجب أن يفعل مثل إبراهيم عليه السلام، حينها إن حطمنا أبا الهول وتماثيل رمسيس وتحتمس نكون قد حطمنا جاهلية القرون الأولى. لذلك كان يرى أن الإعجاب بالتماثيل الفرعونية هو صورة من صور الجاهلية الحديثة، وأن «الحضارة القديمة» ليست تاريخاً مضى، نتعلم منه، ونستكمل عبقريته، بل روح وثنية تسرى فى دم الأمة حين تفقد إيمانها. لذلك لم يكن يعترف بالآثار كفنٍ أو علم، بل كشاهد على الكفر القديم.
وفى سبعينات القرن الماضى، مع عودة الإخوان للحياة العامة، بدأت مجلة «الدعوة» فى نشر فتاوى الشيخ محمد عبدالله الخطيب، مفتى الجماعة، الذى وضع رؤية «قطب» فى قالب فقهى.
ففى إحدى فتاواه الشهيرة، أجاب عن سؤال حول حكم «زيارة المتاحف التى تحتوى على تماثيل الفراعنة»، فقال: «فلتكن الزيارة للعبرة، لنرى كيف أهلك الله ملوك الزمن القديم، لكن لا يجوز تعظيم هذه الآثار ولا تلك التماثيل أو تمجيد أصحابها، لأنهم قوم كفروا بالله، فسلّط الله عليهم الدمار».
وفى فتوى أخرى، اعتبر أن «صناعة التماثيل المجسمة لا تجوز، لأنها تُعيد للذاكرة ملامح الوثنية الأولى». تلك اللغة كانت فى عمقها نزعاً للشرعية الرمزية عن الآثار نفسها، وتحويلها من ذاكرة وطنية إلى وثيقة كُفر يجب الحذر منها، غير أن هذا الخطاب الذى ظل لعقود مستتراً فى كهفهم المظلم، خرج إلى العلن حين وصلت الجماعة إلى السلطة.
ففى عام 2012، حين تولى الإخوان الحكم، بدأ أعضاء فى الإخوان يحاولون تحطيم تماثيل فرعونية فى الأقصر، بحجة أنها «رموز شركية» لا يجوز بقاؤها فى أرضٍ مسلمة. وقاد هذه الدعوات أحد المنتمين إلى إخوان مدينة الأقصر، حيث قال إنه «سيُحطم الأصنام فى الكرنك كما حطمها إبراهيم فى بابل».
لكن الغريب أن هذا الرجل نفسه، أثناء حكم الإخوان، رُشِّح رسمياً ليكون محافظاً للأقصر، وقد أثار القرار صدمة، إذ رآه المصريون إعلاناً صريحاً بهدم الآثار كما حدث فى أفغانستان.
ولم تدم التجربة طويلاً، فسرعان ما أُجبر المحافظ على الاستقالة تحت ضغط الغضب الشعبى، وهكذا بدا المشهد فى أقصى تناقضاته: بين مُتحف يُفتتح فى القاهرة ليُعيد وصل ما انقطع بين المصريين وجذورهم، وبين منابر ترفض هذا الوصل وتراه وثنية مستترة. وبين دولة تقول إن التاريخ قوة ناعمة، وجماعة ترى فيه جاهلية يجب أن تُباد.








