بين انتهاء حكم الميليشيات واسترجاع الدولة الوطنية

حميد قرمان

كان لا بد بالمحصلة من الصدام بين مشاريع لقيطة تعج بها المنطقة، وتريد الثبات والاستمرار على أرض سياسية رخوة دون اهتزازات تبتلع أجنداتها التوسعية.

خطوط الوضوح في ضبابية المشهد السياسي اليوم تفتح باب احتمالات لمستقبل الشرق الأوسط، فانهزام مشروع إيران، والضعف والانهيار اللذان أصابا أدواتها، ينذران بفراغ سياسي في دول عانت حروبا أهلية وانقسامات وتعطيلا دستوريا، كنهج ومساق تتبعه هذه الأدوات، وتستقوي من خلاله بأجندات نظام طهران وحرسه الثوري على مؤسسات الحكم في عواصم هذه الدول، فكانت ميليشيات لها دول.

لم يعد خافيا أن العقد ونصف العقد الماضيين حملا ذروة سيطرة ميليشيات تدور في الفلك الإيراني على دول مثل العراق واليمن ولبنان وسوريا وحتى قطاع غزة ذي الجغرافية الصغيرة. فبعد الاحتلال الأميركي للعراق وثورات ما سمي بالربيع العربي، باتت هذه الميليشيات بتكوينها الطائفي وبعدها التنظيمي تمثل نموذج الدولة العميقة، التي تتخذ القرارات المصيرية، وأهمها قرار السلم والحرب. فأصبحت دولة حزب الله، ودولة الميليشيات في العراق وسوريا، ودولة الحوثي في اليمن، ودولة حماس في غزة.

الأمثلة كثيرة على وقائع خطف هذه الميليشيات لقرارات دولها، لعل أبرزها للتوضيح: ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل قبل عامين، حيث كان قرارا التفاوض وإتمام الاتفاق في حينه بيد حزب الله، واليوم يجر الحزب لبنان بأكمله إلى حرب لم تحقق أهداف خوضها.

الحرب الدائرة وتداعياتها، والتي أدت إلى اندثار أدوات المشروع الإيراني، سحبت الغطاء السياسي لاستبداد هذه الميليشيات وتوغلها في مفاصل الدولة، وأصبح لزاما أن نرى صحوة سياسية من أحزاب وحركات وشخصيات سياسية لإنتاج فلسفة قادرة على ترجمة مفهوم الدولة الوطنية، ذات المؤسسات الدستورية، بديمقراطية دورية مستمرة تعيد تمثيل تطلعات الشعوب، وتؤسس قواعد الاستقرار والسلام والبناء للوصول إلى تحصين سياسي صلب أمام محاولات إعادة تسرب ذات المشاريع الإقليمية بأجنداتها التوسعية، خاصة وأن فرص الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي أصبحت عالية بمعاودة ترتيب صفوف وقواعد التنظيمية الهرمية لهذه الميليشيات، واسترجاع جيوب نفوذها التي خسرتها بسبب مسارات الحرب، في سعي جديد لتثبيت صورتها المهزوزة بتصور استبدادي تعسفي موجه للسيطرة على شعوب هذه الدول.

مجددا، شعوب المنطقة وحكوماتها ومفكروها ومثقفوها مطالبون بلقاء فرصة تاريخية بالخروج من دوامة “ميليشيات لها دول”، والدفع لترسيخ معادلة الدولة الوطنية ذات المفاهيم السياسية والهوية الثقافية الثابتة والجامعة لكافة مواطنيها تحت مظلة الحرية والمساواة والقانون بتوازن الحقوق والواجبات، لتحقيق نماذج الدولة المستقرة، تماما كما خرجت دول القارة الأوروبية واليابان بعد الحرب العالمية الثانية لتدخل في أطوار تخطيط وتطور وبناء الدولة الديمقراطية الدستورية المغلفة بشرعية سياسية متينة الولاء للدولة الوطنية بمفهومها الجامع.

نقلا عن العرب اللندنية

شاهد أيضاً