بين شرعية الاعتراف وفعالية الرد: فلسطين بين سند القانون ودرع السياسة

في لحظةٍ لا تشبه ما سبقها، وقفت فلسطين أمام العالم، لا بوصفها جرحًا مفتوحًا فقط، بل بوصفها كيانًا حيًا، له اسمه، وحدوده، وشعبه الذي لم يُسلّم رغم الغربة الطويلة. صوتت 142 دولة، وأعلنت، كل واحدة منها، أنها ترى في فلسطين دولة تستحق الحياة، لا مجرد قضية مؤجلة، ولا أزمة عابرة على طاولات السياسة.

هذا الاعتراف لم يكن بيان تضامن عابر، ولا كسائر العبارات التي تتكرر في قمم لا تترك أثرًا. بل كان تكريسًا دوليًا واضحًا لحق قانوني أصيل: أن يكون للفلسطينيين وطنهم، علمهم، ومكانهم المحترم في خارطة الأمم. في المقابل، وقف عشر رافضين، واثنا عشر مترددين، كأنهم لا يريدون للعدالة أن تكتمل، أو يخشون إزعاج حليف، ولو على حساب المبدأ.

لكن ماذا يعني هذا الاعتراف؟ وماذا يُمكن أن تجنيه فلسطين من ورائه؟ وهل يُغني هذا المسار عن تفعيل المادة 377 من ميثاق الأمم المتحدة – ذلك الباب الاحتياطي حين يُغلق مجلس الأمن أبوابه بفعل “الفيتو”؟

الاعتراف لا يُمنح عبثًا في النظام الدولي. هو شهادة سياسية وقانونية بأن فلسطين بلغت مرتبة الدولة في نظر المجتمع الدولي، مستوفية أركان الدولة كما حدّدتها اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933: شعب صامد، أرض قائمة – وإن كانت تحت الاحتلال، حكومة تمارس سلطاتها رغم التحديات، وقدرة على الدخول في علاقات دولية متزنة. وحين تعترف أغلبية دول العالم بفلسطين، يتحوّل هذا الإجماع إلى أرضية قانونية تُرسّخ شرعية الدولة الفلسطينية، وتُقوّي من موقعها في الساحة الدولية. وهذا ما يُتيح لفلسطين أن تتوسع في عضويتها في المعاهدات الدولية، أن تتقدّم بشكاوى أمام المحاكم الدولية، وأن تتحرك بشكل أكثر فعالية تجاه ملاحقة الاحتلال قانونيًا، بما في ذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية. بل إن هذا الاعتراف يُكسب فلسطين القدرة على ممارسة وظائف سيادية دولية – ولو بشكل رمزي أو جزئي – وهو ما لم يكن ممكنًا في سياق “السلطة” فقط. إنه تحول من كيان مراقب إلى دولة تفرض وجودها.

على الجانب الآخر، فإن المادة 377 من ميثاق الأمم المتحدة، المعروفة بآلية “الاتحاد من أجل السلام”، هي أداة سياسية طارئة، تُستخدم حين يُشلّ مجلس الأمن، وتتعطل العدالة الدولية بفعل الفيتو. تُجيز هذه المادة للجمعية العامة أن تتخذ إجراءات سياسية ودبلوماسية لحماية السلم، مثل إصدار توصيات لإرسال قوات مراقبة، أو الدعوة إلى وقف العدوان. لكنها، في جوهرها، لا تملك القوة القانونية لإعلان دولة أو فرض اعتراف دولي ملزم. هي بمثابة صفارة إنذار دولية، لا أكثر. صرخة تُطلقها الجمعية العامة حين تسكت القوةُ صوتَ القانون، لكنها لا تصنع شرعية دائمة، ولا تُبني على أساسها دولة.

هنا يظهر الفارق الجوهري: أن الاعتراف بـ 142 دولة ليس مجرد رد فعل على أزمة، بل هو خطوة تأسيسية في بناء الدولة الفلسطينية. هو استثمار في المستقبل، لا مناورة ظرفية. أشبه بزرع شجرة في أرض التاريخ، تُسقى بالعمل الدبلوماسي، وتثمر شرعية دولية يصعب تجاهلها، حتى على الأعداء. أما المادة 377، فرغم أهميتها، تبقى أداة إسعاف مؤقت، لا تعيد بناء الجسم، بل تُحاول فقط إنعاشه لحينٍ.

في الطريق إلى التحرر، لا يكفي أن يكون الحق معك، بل يجب أن تملك الأدوات التي تُثبته وتدافع عنه. تحتاج فلسطين إلى الاثنين: إلى الاعتراف الذي يُرسّخ الكيان، وإلى الآليات الدولية التي تحميه وتمنع القضاء عليه. لكن لا شك أن هذا الاعتراف الأخير، من هذا العدد الهائل من الدول، يُمثّل نقطة تحول حقيقية. ليس فقط لأنه يصف فلسطين كدولة، بل لأنه يُجبر العالم على التعامل معها بهذه الصفة، ولو تدريجيًا، وفي وجه الاحتلال الذي طال أكثر مما يجب.

هكذا، وفي لحظة نادرة من الانتصار الرمزي العميق، أثبتت فلسطين أنها ما زالت قادرة على جمع العالم حول حقها، حتى لو تفرّق السياسيون من حولها. وأنها، رغم القيد والخذلان والتآمر، تمشي بخطى ثابتة نحو اليوم الذي لا يُقال فيه “دولة محتلة”، بل “دولة محررة.

٠ كاتب وسياسي فلسطيني