السياسي – ثمة معادلتان حاكمتان تفرضان نفسيهما على الأوضاع في الشرق الأوسط، وتتلخص هاتان المعادلتان بـ: إما أن تكون على مقاس الشروط الإيرانية، أو تكون على مقاس التطبيعيين، والغريب أن مخرجات هاتين المعادلتين تصبان في صالح إسرائيل فقط فيما الفلسطينيون هم الضحية. وهنا لا نتحدث عن النيات ولا الأهداف ولا الاستراتيجيات، بل نحاول بعقل بارد تقديم قراءة تقنية، ونحن نغطس في بحر الدَّم الفلسطيني، فكما أن المجاملة والتستر خيانة، كذلك التهويل ورفع سقف طموح الناس لم يعد مقبولا في ظل حرب الفناء التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو الضفة الغربية التي يبدو أنها بدأت السير على طريق الآلام.
منذ أكثر من عقد تتصارع على جثث الفلسطينيين سرديتا المقاومة والتطبيع، وقد أنتج كل منهما مقاربات غير منطقية، فالأولى تنادي بتحرير فلسطين باللحم الحي لشعبها، دون تقديم الدعم الفعلي والحقيقي؛ الدعم الذي ليس بحجم التعاطف الإعلامي أو إرسال ما تيسر من شحنات أسلحة، بل الدعم الذي تتوجب ترجمته على شكل قُوَى عسكرية تتحرك فعليا على الأرض وتأخذ وضعا هجوميا وتبدي استعدادا واضحا للانخراط في الحرب إذا لم تتوقف إسرائيل عن أفعالها تجاه الفلسطينيين.
والثانية، تدعو إلى الصبر والانتظار إلى حين حصول تغيير المِزَاج الإسرائيلي، وذلك بعد أن يجري التطبيع معه وتوريطه بالسلام وتعويده على قطف ثمار السلام، وربما انتظار إدمانه عليها بحيث يصبح غير قادر على العيش بدونها، وعندئذ يصبح المناخ مناسبا لطرح حل الدولتين ومنح الفلسطينيين حقوقهم. وفي هذه المرحلة، غير المحددة بالزمان، مطلوب من الفلسطينيين الصمت، فإذا صفعك الصهيوني على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر، وإذا صادر أرضك قدم له أرض أخيك فوقها، وإذا قتل المستوطنون ابنك قدّم لهم الابن الآخر كرمى لعيون السلام الموعود.
في الحالتين، الفلسطيني مقتول ومهان ومصادرة أراضيه، في الأولى تجري العملية بسرعة، وكأن الفلسطينيين حمل ثقيل يتوجب التخلص من عبئه اليوم قبل غد، أو ربما كي يتسنى العبور على جثته إلى أهداف أخرى، وفي الثانية تجري العملية ببطء لكن بشكل حثيث ومستمر، فليبقَ الفلسطيني على الوعد حتى يأتي وقت لا يبقى معه أي شيء مهم ينتظره الفلسطينيون.
المشكلة أن أصحاب هذه المقاربات يعتقدون أن بيدهم فقط العلاجات الحقيقية للمسألة الفلسطينية، واعتبارهما مقاربات ذهبية تعود لهما فقط حقوق ملكيتها، وعلى ذلك جرى إغلاقهما، ليس بمعنى منع قَبُول منتمين لهما، بل من ناحية المراجعة والتصحيح أو الإضافة والحذف نظرا للمتغيرات الحاصلة في بيئة الصراع وأوضاع الفلسطينيين الصعبة.
وفي الواقع، لم ينقذ فلسطين لا محور المقاومة ولا محور التطبيع، ولا أفق تحمله مقارباتهما، فلا مناوشة إسرائيل تحت شعار المقاومة تثمر ولا التقرب من إسرائيل، فالأول عجّل بالمذبحة وسرع وتائرها، والثاني لا يلغيها، بل يبطئها ويعطيها الاستمرارية، وفي الحالتين تستطيع إسرائيل خلق شرعية لتصرفاتها وسلوكها، وربما هذه أخطر ثغرات المقاربات المذكورة. ففي مواجهة المقاربة الأولى تدّعي أنها تواجه تهديدا وجوديا، وفي الثانية يمكن لإسرائيل استثمار التطبيع العربي للقول إن الموضوع الفلسطيني لم يعد ذا أهمية.وفي الواقع، لم تحرز أي من المقاربتين معادلا موضوعيا للأثمان التي تترتب على الفلسطينيين، وإن تركتا تنتجان ديناميكيات ومسارات من وحيهما، فلا أفق يبشر بالخير للفلسطينيين، ما يطرح بقوة سؤال ما العمل؟ وهو السؤال الملح على الفلسطينيين اليوم، لعل الإجابة البديهية على ذلك هو ألا يصبح الفلسطيني فاعلا غير مؤثر في قضيته ويترك للآخرين مهمة إدارة مسارات الصراع والسلام مع إسرائيل، وثانيا، ليس للفلسطيني غير الفلسطيني، بمعنى أن الوحدة والتفاهم والتنسيق بين الفلسطينيين باتت اليوم مسألة أكثر من ضرورية، وإن من يحد عنها يخون القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
وبالنسبة للأطراف الخارجية، يجب أن تكيّف أفعالها ودعمها للفلسطينيين وفق ما يريدون وما يكون له أثر مُجدٍ على قضيتهم ونضالهم، بعيدا عن حسابات الأطراف الخارجية ورؤاها واستراتيجياتها، التي لم تفعل أكثر من استنزاف الفلسطينيين وتشجيع متطرفي إسرائيل على الاستهتار بآدمتيهم وحقهم في أرضهم وفي الوجود.
هذا التحوّل بات ضروريا في وقت أصبحت فيه القضية الفلسطينية تقف على عتبة خطرة جدا، فقد آن أوان كي ندع الواقعين تحت سواطير القتل، في غزة والضفة الغربية وأراضي 1948، أن يقولوا كلمتهم، وشرف لكل حر أن يسير خلفهم.