كلما سخن الصفيح السياسي أو العسكري في منطقة الشرق الأوسط، يُقحمان أكبر قناتين إخباريتين عربيتين في حلبة التنافس؛ والذي يأخذ طابع التصيّد في تغطيتهما الإعلامية. فتصبح المهنية على المحك، والجدل مسيطرا على مواقع التواصل الاجتماعي، جدل لا ينتمي إلى مساقات نظريات الإعلام وحقوله، بحيث يميل فيه كل جمهور للدفاع عن توجهات القناة التي تشبع حاجته المعرفية للوصول إلى الحقيقة أو ترضي سرديته التي تعبر عنها.
في العربية يلمس المواطن العربي الصورة الكاملة للحدث، يدرك تفاصيله بتجرد بعيدا عن أهواء جماعات دينية سياسية أصبحت متوغلة داخل قناة كالجزيرة التي باتت ناطقة باسم الإخوان المسلمين وحلفائها، من خلال عناصر الجماعة التي تتحكم “أيديولوجيا” بسياسات وقوالب التحرير داخل القناة، ونوعية التقارير والبرامج والضيوف، بالإضافة إلى الاستعانة بمحللين من فلك الجماعة ذاتها، والذين يفتقرون بتحليلاتهم إلى واقعية الطرح وموضوعيته، كونهم مجبرين على سرد مواقف تُلزمهم بها الجزيرة وإدارتها.
وهو ما يضع المتلقي أو المشاهد أمام حقيقة.. بأن شعبوية الجزيرة تنطلق من عقيدة العاطفية التي تدغدع مشاعر الجمهور وتستحوذ عليه، دون تقديم أفكار ورؤى، فخطف الوعي وإثارة الحماس وإلهاب المشاعر عبر التحريض الغوغائي الباحث عما سمّي حديثا بالترند، روافع القناة في تغطيتها المفتوحة لأي حدث، ليتناغم مع تطلعات جمهورها وثقافته المستمدة من موروث فكر الإخوان الذي يستغل الدين ويوظفه في استقطاب عناصرهم ومؤيديهم.
المقارنة المستمرة بين قناتي العربية والجزيرة، مقارنة غير عادلة للجزيرة، كون الجمهور المستهدف لكلا القناتين يختلف بطبيعته الفكرية والعمرية، فالعربية؛ قناة النخب العربية بخطابها الإعلامي وسياساتها التحريرية، يجلس جميع الأطياف ممثلين على طاولتها الحوارية، تفتح آفاقا فكرية وتوسع مدارك سياسية واقتصادية من خلال جهد متكامل عبر نشراتها، وتقديمها تحليلات عميقة دون الدخول في دهاليز فكر أيديولوجي مبتور، فالعربية تنتهج مسار تمثيل كافة التيارات والقوى السياسية المعنية بالتغطية أو التي لها صلة، في المقابل الجزيرة؛ قناة الشعبوية العربية، تصدح فقط بكل ما يمثل الإخوان ويخدم تحالفاتهم العقيمة، فيظهر بها طيفهم الأوحد في كل حدث أو قضية ليتم تروج أيديولوجيتهم البالية، تماما كتجارب إعلام الدول التي يسيطر عليها حزب الدولة الواحد؛ كالشيوعية والنازية، والبعث، إعلام فقد بريقه مع مرور الوقت وازياد الوعي، وهو ما بدأ يظهر في مؤشرات متابعة الجزيرة ونسب مشاهداتها المستمرة في الانخفاض.
جدلية السبق الصحفي؛ كإطار تندرج تحت سقفه القناتان باستمرار، ودون تحيز أو محاباة، يُحسم بالمطلق لصالح قناة العربية لاعتبارات سياسية وإعلامية تراعيها القناة دوما في تغطيتها، فالعمل الإعلامي محكوم بمثلث أضلاعه؛ معايير المصداقية، ومجموعة المبادئ الأخلاقية، والقواعد المهنية، وهو ما تجاوزته قناة الجزيرة مرارا في محاولتها إقحام فكرة ما أو موقف سياسي لخدمة أجنداتها الإخوانية. فلا ضمان لحق الرد أو إتاحته بمساحة تكفي لبيان الحقائق للرأي الآخر، ولا يتم تصحيح الأخطاء أو المعلومات وفق الأطر المهنية داخل الجزيرة، وهو ما يؤاخذ عليها دوما، وهو ما اعترف به رئيس الوزراء القطري الأسبق حمد بن جاسم لأحد البرامج، بحكم موقعه سابقا، بأن قام كثيرا بالتوسط بين أنظمة سياسية في المنطقة والقناة، وهو ما كانت تقبله القناة أحيانا وترفضه أحيانا، وفقا لتحقيق مصالح أجنداتها ورؤاها السياسية التي كانت تسعى لتسويقها لمساعدة فروع الجماعة وحلفائها في الدول العربية للوصول إلى الحكم.
في المحصلة سينقشع غبار الحرب في قطاع غزة وجنوب لبنان، وستوضع العربية والجزيرة على ميزان المهنية والمصداقية والاحترافية، العربية.. تميزت بنقل الوجع الفلسطيني واللبناني دون مغالاة أو استغلال لمعاناة الشعبين، ودون الغرق في مستنقع الترند، أما الجزيرة فساقت تضخيم قدرات ميليشيات كإستراتيجية سياسية لكسب الحرب بعيدا عن واقع ميدانها، فمنحتها إسرائيل بقرارات منع عمل طواقمها في إسرائيل والضفة الغربية، في صورة بطولية جعلتها طرفا في الحرب الدائرة، مما دفعها إلى التمادي بتسويق الأوهام التي تطرب الغوغاء، فدفع الضريبة الشعبان الفلسطيني واللبناني، اللذان قُضما من أراضيهما وسالت دماء أبنائهما تحت زيف تحليلات عسكرية وظفتها القناة لكسب جماهيرية وشعبوية زائفة.
صحافي وكاتب سياسي*