تشهد مدينة كازان الروسية هذه الأيام أعمال القمة السادسة عشرة لتجمع دول بريكس. تكتسب هذه القمة أهمية خاصة نظراً لانعقادها في روسيا من جهة؛ فروسيا تدعو باستمرار إلى إعادة بناء النظام الدولي على أسس أكثر عدالة. كما أن الدول الخمسة الجديدة التي انضمت حديثاً لبريكس، وهي السعودية ومصر والإمارات وإيران وأثيوبيا، ستكون حاضرة في هذه القمة من جهة أخرى.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن بريكس هي مجموعة وليست منظمة. يتيح هذا التجمع للدول المنضوية ضمنه تنسيق الجهود فيما بينها لمواجهات كافة التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
يوجد في الدول الأعضاء أنظمة اقتصادية وسياسية مختلفة، و هذا من وجهة نظرنا عامل قوة، إذ يتيح لكل دولة هامشاً من حرية الحركة و المناورة مع ضرورة التنسيق مع باقي الدول الأعضاء.
قامت هذه المجموعة على أساس اقتصادي، استناداً إلى تنوع الموارد في بلدان التجمع، لذلك تنبع طبيعة هذا التكتل من طبيعة العلاقات الاقتصادية بين الدول، و هذا ما يجعله أكثر ثباتاً و ديمومة.
لقائل أن يقول: إذا كان الرابط بين هذا الدول ينبع من طبيعة العلاقات الاقتصادية، فلماذا تم إنشاء تكتل بريكس، و الجواب بسيط: إن وجود مثل هذا التكتل سيجعل هذه العلاقات الاقتصادية أكثر تنظيماً وكمالاً، الأمر الذي سيعود بفوائد أكبر على الدول الأعضاء. لذلك تسعى دول نادي بريكس بوعي وقصد للمحافظة عليه نظراً للفوائد التي تجنيها منه.
ونظراً لأهمية هذا التجمع فإن حوالي 50 دولة قدمت طلباً للعضوية في بريكس، أو أعلنت عن رغبتها بالانضمام، وهذه الدول موزعة في آسيا و أفريقيا و أمريكا الجنوبية، و هذا يدل على الدور الفاعل الذي تلعبه هذه المجموعة في الاقتصاد العالمي و السياسة الدولية.
إثباتاً لما نقول، تكفي الإشارة إلى بعض البيانات و المؤشرات التي تميز هذا التجمع. تتركز 43.5% من احتياطات النفط في دول بريكس و 53% من احتياطات الغاز. 40% من أراضي روسيا و 20% من أراضي الصين هي أراضي عذراء. 38% من غابات العالم تتركز في روسيا والصين والبرازيل. تشكل دول بريكس 46% من سكان العالم، و 36% من مساحة اليابسة. يشكل مجموع النواتج المحلية الإجمالية لدول بريكس حوالي 37% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
فضلاً عن ذلك، يمكن الاعتماد على مؤشر هام للغاية لفهم درجة تماسك هذا التجمع، و هو حجم التبادل التجاري، البيني ضمن التجمع نفسه ومع الدول الغربية. تؤكد البيانات المنشورة أن 30% من الميزان التجاري للتجمع يتم بين أعضائه. كما أن دول بريكس تصدّر إلى الدول الغربية حوالي 15% من احتياجاتها، في حين تستورد دول بريكس من الدول الغربية حوالي 9% من احتياجاتها. هذا يعني أن دول بريكس أكثر تكاملاً فيما بينها و أقل اعتماداً على الدول الغربية.
في المنتدى البرلماني العاشر لدول مجموعة بريكس، الذي انعقد في مدينة سان بطرسبورغ في يوليو الماضي، أكّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن “تشكيل عالم متعدد الأقطاب يتقدم رغم استخدام الغرب القوة والابتزاز للحفاظ على هيمنته العالمية”. وقال بوتين “إن مجموعة بريكس هي أحد العناصر الأساسية للنظام العالمي الناشئ متعدد الأقطاب”، و أعرب عن “استعداد دول بريكس لتعزيز الحوار مع جميع البلدان المهتمة بالتعاون معها”، كما أشار إلى أن “الهدف من رئاسة روسيا لبريكس يتمثل في تهيئة الظروف لتنمية أعضاء المجموعة كافة”.
بناءً على ما تقدم، تكمن المهمة الأساسية لبريكس في إنشاء قطب اقتصادي ومالي وعسكري وأيديولوجي في مواجهة الغرب الجماعي؛ إذ أن العديد من دول العالم تضررت من السياسات الغربية، و خاصة الأمريكية، في العقود الأخيرة.
في الحقيقة، كانت الأزمة الأوكرانية، و من ثم العدوان الإسرائيلي على غزة و لبنان، من أهم العوامل التي أعطت دفعة كبيرة لهذا التجمع؛ فالعالم كله رأى كيف أن الدول الغربية مستعدة لخنق اقتصاد أي دولة عند حدوث خلافات سياسية معها. كما أن ازدواجية المعايير و تعطيل عمل المؤسسات الدولية و العبث بنصوص القانون الدولي هي من أبرز السمات التي تميز السياسة الخارجية للدول الغربية، و على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
من هنا نفهم، أهمية بروز مراكز قوة جديدة قادرة على تحقيق بعض التوازن في العلاقات الدولية. ولكن هناك الكثير من الأسئلة التي يطرحها المراقبون حيال هذا الموضوع، و الجميع يُجهد نفسه في البحث عن إجابة شافية عنها، أهمها:
ماهي الآليات التي يملكها تجمع بريكس للوصول إلى هذه الغاية؟
ماهي الإيديولوجيات التي يجب أن تسير عليها دول بريكس؟
لن نجانب الصواب إذا قلنا: غياب الآليات و الإيديولوجيات هي إيجابية كبيرة لهذا التجمع؛ فالتحديات و الأزمات متنقلة زماناً و مكاناً، كما أن العالم يتغير بسرعة كبيرة، الأمر الذي يتطلب مرونة عالية في اتخاذ القرار و الاستجابة لكل المستجدات!
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن المقاربة الروسية للأزمات تقوم على مبدأ بسيط، وهو العمل الموجه غرضياً، أي العمل بإصرارٍ حتى بلوغ الهدف! و هي بذلك تتميز عن المقاربات الغربية، التي تقوم على آليات حسابية ميكيانيكية معقدة لبلوغ الهدف، وهذا فرق جوهري يتطلب التوقف عند خلفياته العلمية بحثاً مستقلاً.
بدون أدنى شك، هناك مجموعة من الثوابت التي يجب المحافظة عليها، وحرية الحركة متروكة لكل دولة حسب ظروفها. المهم في القضية أن جميع أعضاء بريكس يؤمنون بالسلام. فضلاً عن ذلك، لا تعتمد هذه الدول على إثارة النزاعات و خلق بؤر التوتر في الترويج لمشاريعها أو تحقيق المكاسب السياسية، كما هو الحال عند الدول الغربية.
لذلك، فالآلية الوحيدة التي يجب اعتمادها في تجمع بريكس هي إنشاء مجموعات عمل تخصصية في مختلف المجالات، تكون هذه المجموعات في حالة اجتماع و نقاش مستمر حول مختلف الأزمات و التحديات.
أعتقد أننا سنستشعر ثمار عمل هذا التجمع في المستقبل القريب، ومن هنا نفهم هذه التحركات المسعورة و الكثيفة التي تقوم بها الولايات المتحدة في شرق العالم و غربه؛ فلقد أنشأت التكتلات العسكرية في جوار الصين و روسيا، كما أنها حاولت استغلال طوفان الأقصى بهدف إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. كما أن العديد من المؤسسات البحثية الأمريكية أكّدت أن الولايات المتحدة لم تواجه أخطاراً بمثل هذا الحجم منذ الحرب العالمية الثانية، و هذا يعني أن واشنطن تنظر إلى هذا النادي كتحدٍ لها، و هي بذلك تُعِد العدة للمواجهة معه.
ختاماً، الحديث حول هذا الموضوع قد يكون طويلاً، ولكن ما أوردناه في الأعلى كافٍ لبيان الأهمية الكبيرة لبريكس في إعادة رسم ملامح النظام الدولي الجديد.
مدير مركز JSM للأبحاث و الدراسات (موسكو)