في يومين متتاليين، ألقى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خطابين حملا نبرة “الانتصار والسلام” في الشرق الأوسط: الأول أمام الكنيست الإسرائيلي، والثاني في قمة شرم الشيخ للسلام التي وُقّع فيها اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
ورغم التناقض الظاهري بين المنبرين — منبر الاحتلال ومنبر القمة العربية — فإن جوهر الخطابين كان واحدًا: لا مكان للحقوق الفلسطينية، ولا ذكر للعدالة، بل سلام مشروط بالقوة والمال.
أولاً: خطاب ترامب في الكنيست — تمجيد القوة وتبييض الاحتلال
في كلمته أمام الكنيست، قدّم ترامب نفسه كحليفٍ لإسرائيل لا كوسيط للسلام.
تحدث عن “الانتصارات العسكرية الإسرائيلية بمساعدة الولايات المتحدة”، وقال إن الوقت قد حان لترجمة هذه الانتصارات إلى “سلام وازدهار”، وكأن السلام يولد من فوهة البندقية.
لم يتطرّق إلى الجرائم في غزة ولا إلى معاناة المدنيين أو الحصار، بل ركّز على “شرعية إسرائيل التاريخية”، متجاهلاً تمامًا جذور الصراع وحقوق الشعب الفلسطيني في الأرض والحرية والعودة.
بل ذهب أبعد من ذلك حين أشار إلى “العفو عن نتنياهو” — رسالة رمزية خطيرة تُظهر أن الرجل الذي يتحدث عن السلام لا يرى مشكلة في تبرئة من تلطّخت يداه بدماء الفلسطينيين.
لقد تحوّل الخطاب في الكنيست من حديث عن “السلام” إلى احتفال بالنصر العسكري وتبييض لسياسات الاحتلال.
ثانيًا: خطاب ترامب في شرم الشيخ — تسويق “سلام بلا فلسطين”
في القمة التي استضافتها مصر، قدّم ترامب خطابه كما لو أنه “يوم تاريخي للعالم كله”، وتحدث عن إعادة إعمار غزة وعن دعم الدول العربية ومساهمتها في “فجر جديد للمنطقة”.
لكن خلف العبارات المنمّقة عن “الأمل والازدهار”، لم يذكر ترامب كلمة واحدة عن الحقوق السياسية أو السيادة الفلسطينية، ولا عن إنهاء الاحتلال أو إطلاق الأسرى أو رفع الحصار.
حتى عندما رحّب بالرئيس محمود عباس، كان الترحيب بروتوكولياً، بلا مضمون سياسي أو التزام حقيقي.
لم يشر ترامب إلى حل الدولتين، ولا إلى دولة فلسطينية مستقلة، ولا حتى إلى القدس الشرقية — وكأن وجود فلسطين هو تفصيل فرعي في مشهد يراد له أن يبدو متوازناً بينما هو في جوهره تثبيت للهيمنة الإسرائيلية.
بدت قمة شرم الشيخ بالنسبة لترامب منصة لتسويق “سلام اقتصادي” جديد: وعود بإعمار غزة مقابل الصمت عن الاحتلال، ومساعدات مالية مقابل شطب الحقوق التاريخية.
بعبارة أخرى، استبدل العدالة بالمشاريع، والسيادة بالاستثمار.
ثالثًا: التناقض الأخلاقي والسياسي بين السلام المعلن والواقع الفعلي
ما بين الكنيست وشرم الشيخ، رسم ترامب خريطة جديدة للشرق الأوسط تقوم على ثلاث ركائز:
1. شرعنة القوة الإسرائيلية باعتبارها “ضمانة للاستقرار”.
2. إقناع العرب بالمشاركة في إعادة إعمار ما دمره الاحتلال.
3. تهميش القضية الفلسطينية في الخطاب والمضمون، لتصبح ملفاً إنسانياً لا قضية تحرر وحقوق وطنية.
هذه الصيغة تذكّرنا بنموذج “صفقة القرن” التي حاول ترامب فرضها سابقاً: سلام بلا دولة، وازدهار بلا سيادة، ومصالحة بلا عدالة.
فهو لم يغيّر في الجوهر شيئاً، بل أعاد إنتاج الفكرة نفسها بديكور جديد — فقط غيّر العنوان من “صفقة القرن” إلى “سلام شرم الشيخ”.
رابعًا: غياب فلسطين عن السلام المزعوم
من المدهش أن رئيساً أميركياً يتحدث عن “يوم لا يُصدق للشرق الأوسط” دون أن يذكر كلمة “احتلال” أو “حقوق فلسطينية”.
كأن الفلسطينيين خارج الجغرافيا والتاريخ، أو مجرد أداة لإعادة صياغة النظام الإقليمي.
حتى إشادته بالرئيس عباس كانت أقرب إلى تجميل الصورة أمام الكاميرات لا اعترافًا حقيقيًا بحقوق أو بدور سياسي فاعل.
وهكذا بدا خطاب شرم الشيخ كأنه تكملة لخطاب الكنيست:
في الأول، منح ترامب الاحتلال شرعية النصر.
وفي الثاني، منح هذا النصر غطاءً عربياً باسم “السلام”.
أما الفلسطينيون، فقد تم تجاهلهم إلا بوصفهم “متلقين للمساعدات”، لا أصحاب قضية أو دولة.
خامسًا: القراءة الاستراتيجية
من الواضح أن ترامب يحاول إعادة بناء تحالف شرق أوسطي جديد، حيث:
• تكون إسرائيل مركز القوة والشرعية،
• وتتحول القضية الفلسطينية إلى ملف إنساني اقتصادي،
• ويُستخدم المال العربي لتمويل الاستقرار الذي يخدم إسرائيل وأميركا.
إنه مشروع “سلام بلا عدالة”، يُعيد إنتاج نفس المفهوم الذي فشل منذ أوسلو حتى اليوم:
سلام فوق جراح الفلسطينيين، ومن دون إنهاء الاحتلال.
إن الخطابين — في الكنيست وشرم الشيخ — يعكسان جوهر رؤية ترامب للمنطقة:
سلام على مقاس القوة، واستقرار بلا حرية، وازدهار بلا كرامة.
وإذا كانت قمة شرم الشيخ قد منحت غطاءً عربيًا لهذا الخطاب، فإن التاريخ سيسجّل أن الحديث عن السلام لا قيمة له ما دام صاحبه يتجاهل الشعب الذي يطلب العدالة أولاً.
لا يمكن لأي “اتفاق” أن يصنع سلاماً حقيقياً ما لم يُعترف بفلسطين، لا كأرض للإعمار فقط، بل كقضية للتحرر والحق والكرامه