تظهر الأحداث الجارية في العالم أن هناك أشياءً كثيرة في طريقها إلى التحوّل، وأن النظام الدولي الذي ساد حتى وقت قريب وانتشر معه أسلوب المقاربة الغربية للوقائع قد تراجع بشكل أسرع ممّا كان يتوقع صناع القرار على المستوى الدولي، وذلك ما يفسّر في نظر المتابعين تجرّؤ محكمة الجنايات الدولية على إصدار قرارها الأخير القاضي بمتابعة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير دفاعه السابق بتهمة التجويع والإبادة الجماعية للمدنيين الفلسطينيين في غزة، على الرغم من معارضة الدول الغربية لهذه الخطوة وشعورها بالحرج بشأن طبيعة الموقف الذي يجب عليها تبنيه ورفض الإدارة الأمريكية الصريح لقرار المحكمة وتهديد إدارة ترامب المقبلة بتسليط عقوبات قاسية عليها. ويدخل كل ذلك في سياق ما كان المفكر الفرنسي برتراند بادي، قد أشار إليه في مؤلفاته لاسيما في كتابيه، الأول الموسوم: «عندما يقوم الجنوب بإعادة ابتكار العالم»، والثاني الذي صدر مؤخراً ويحمل عنوان: «ساعة الجنوب».
ويؤكد بادي في مؤلفه أهمية الدور المحوري الذي بات يلعبه الجنوب بمساهمة مجتمعاته وكل قوته البشرية وموارده الطبيعية، في الانتقال إلى نظام دولي جديد، وهي الفكرة التي كان قد مهّد لها من خلال كتابه: لم نعد وحدنا في العالم، في إشارة منه إلى الفترة التي كانت تُختزل فيها العلاقات بين الأمم في علاقات الدول الأوروبية فيما بينها، إضافة إلى أمريكا الشمالية بشكل حصري، مع إقصاء كلي لباقي دول العالم الموجودة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، فقد كانت القوى الكبرى تنفرد بصناعة الأحداث الكبرى في التاريخ. أما اليوم فإن هذه القوى تحصد الإخفاقات في مجمل القضايا الدولية، ونلاحظ في مقابل ذلك أن من كنّا نصفهم بالضعف باتوا يحدّدون الرهانات الدولية ويشكّلون مصدراً مباشراً لانعدام اليقين الذي يؤثّر في مسارات المستقبل.
وبالتالي فإن التحوّلات الراهنة، التي تقودها المجتمعات والتنظيمات الخارجة عن سيطرة الدول الوطنية، أصبحت تؤثر في الجميع، وذلك ما يؤدي إلى إحداث تغيّرات فجائية في النظام الدولي بمعزل عن الإرادة الواعية للدول، وتُسهم هذه التحولات في انضمام فاعلين جدد في إعادة كتابة الأجندات الدولية بالشكل الذي يجعل من القضايا الاجتماعية رهانات كبرى لعصرنا مثل، النمو السكاني الهائل واتساع الفوارق بين البشر وانعدام الأمن وموجات الهجرة، الأمر الذي يتطلب البحث عن حلول من شأنها المساهمة في التصدي لهذه الظواهر العابرة للدول.
ويمكن القول إن الوضعية الدولية الراهنة تفرض تحديات غير مسبوقة أمام الزعامة الأمريكية للعالم، بل وتعيد النظر في هذه الزعامة التي كانت تبدو حتى بداية التسعينات من القرن الماضي وكأنها بمثابة تحصيل حاصل، وذلك اعتماداً على الوضعية الدولية التي تبلورت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تبدو أمريكا من خلالها وكأنها قوة لا تُقهر بسبب امتلاكها للسلاح النووي وتأسيسها لحلف الناتو وهيمنتها الاقتصادية على أوروبا بفضل مشروع مارشال واحتكارها لربع التجارة العالمية، حيث تظهر الولايات المتحدة الآن أقل قدرة على فرض هيمنتها على بقية العالم لأسباب تتعلق – كما يقول برتراند بادي- بالتعدّد الذي حصل على مستوى سجلات ومعايير القوّة بين الأمم، بعد أن فقدت التدخلات العسكرية من فعاليتها، ولعل الخروج المذِل للقوات الأمريكية من أفغانستان يمثل أبلغ تعبير عن هذه الوضعية، كما أن العولمة خلطت الأوراق بشكل مؤثر نتيجة للتطوّر الذي حصل على مستوى سلاسل التوريد ودخول الدول في حالة من التبعية الاقتصادية المتبادلة.
من الواضح أن رهان ترامب في ولايته الثانية على خياري القوة والعزلة، لن يسهم في وقف تراجع الهيمنة الأمريكية وقد يؤدي إلى إضعافها بشكل أكبر، وخاصة أنه لن يتردّد في ابتزاز أقرب حلفائه خدمة لمصالح بلاده الضيقة، ومن ثم فإن تشجيعه للنزعات الوطنية المنغلقة وللممارسات الشعبوية، سيجعل النموذج الأمريكي الذي قاد العولمة الاقتصادية حتى الآن، يفقد بريقه ويشجّع على إعادة استنساخ الممارسات الترامبية في العديد من مناطق العالم. ويذهب الخبراء في هذا السياق إلى أن إمكانيات واشنطن لن تتوقف عن التراجع نتيجة لوجود اختلالات وثغرات في قدراتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والعلمية، ومن شأن كل ذلك أن ينعكس على علاقات البيت الأبيض بالصين وروسيا وإيران والاتحاد الأوروبي.
ومن المنتظر أن تكون المعركة الكبرى لترامب في ولايته الجديدة، مع دول الجنوب التي ليس لديها الشيء الكثير لتخسره في هذه المواجهة، ويعود سبب ذلك بشكل أساسي إلى شخصية ترامب التي ترفض التعامل بسلاسة مع دول الجنوب التي تعيش الآن «ساعتها التاريخية»، لاسيما وأن مؤشرات الصراع الوجودي بين الغرب المهيمن والجنوب الشامل بدأت في التجلي منذ أكثر من عقدين من الزمن. وعليه فإن التطورات المتسارعة التي حدثت بين دول الجنوب ودرجة النضج الذي بلغته خلال السنوات الأربع الماضية، ستحرم إدارة ترامب من أن تستثمر لصالحها الخلافات التقليدية بين دول الجنوب وبين الصين والهند، بعد أن أضحت تكتيكات ترامب وأساليبه واضحة.
نقلا عن الخليج