في زمنٍ تتشابك فيه المصالح وتختلط فيه الشعارات، باتت الحقيقة عارية لا يكسوها سوى الرماد المتطاير من ألسنة الخداع السياسي والديني، فها نحن نرى من يرفع راية الإسلام ويتغنى بالمقاومة وهو في العمق أوثق حلفاء الكيان الصهيوني اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا، تركيا التي يصدّر رئيسها نفسه شيخًا للطريقة وحاميًا للمظلومين لا تزال المصدّر الأول للبضائع والسلاح للكيان الغاصب، ولم تفكر يومًا في قطع علاقاتها الدبلوماسية أو حتى السماح بتنظيم وقفة احتجاجية أمام سفارة الاحتلال في أنقرة، بل تزداد التصريحات نفاقًا كلما ارتفعت دماء غزة على مذابح الإبادة، بينما الطائرات المسيّرة التي يتغنى بها أردوغان تذهب لتعزيز ترسانة إسرائيل ولا تصل قط إلى المقاومين، وحين يسأل العقل أين سلاح المقاومة المزعوم الذي جُعل ذريعة لتدمير غزة وتهجير أهلها، لا يجد سوى فراغ هائل، خداعٌ موهوم وسلاح إعلامي لا عسكري، وإلا لَما تجرأت إسرائيل على حرق البشر والحجر بهذا الشكل، ومن يدافع عن هذا الوهم إنما يساوي بين الضحية والجلاد، ويخدّر البسطاء بالأساطير عن جحافل مقاتلين وصواريخ عابرة للمدن، فيما الحقيقة على الأرض موت جوعًا وكمَدًا، ومقاومة متروكة في عزلة دامية، أما إيران فلا تختلف كثيرًا، فهي في ظاهرها تدّعي نصرة فلسطين وفي باطنها لا ترى في غزة إلا ورقة للمساومة على حساب العرب وأهل السنة، وأذرعها الطائفية الممتدة عبر المنطقة لم تحمل سوى الخراب واللعنات التي تطال الصحابة وأمهات المؤمنين وتستبيح دماء المسلمين، وهي ذاتها التي يتباكى بعض قادة حماس على إرثها الكالح في الولاء للخميني، حتى غدا المشروعان التركي والفارسي وجهين لعملة واحدة، كلاهما يسعى لإعادة حلم إمبراطورية منزوعة الرحمة على حساب الدم العربي، وما بينهما ضاع وعي القيادات الفلسطينية التي راهنت على قطر وتركيا وإيران بدل أن تراهن على شعبها وقضيتها العادلة، ولعل السؤال الأكثر إيلامًا: أين ذهبت المليارات من التبرعات التي جمعت باسم غزة؟ أليست هذه التجارة بالدين والمتاجرة بدماء الأبرياء هي أخطر ما أصاب المقاومة في جوهرها؟ اليوم تُسفك دماء الشهداء دون حساب، فيما تزداد القيادات خطبًا وتبريراتٍ ووعودًا زائفة، حتى إن شيخهم يردد أن إسرائيل لن تفاوض إلا إذا سقط في مشافيها عشرة قتلى يوميًا، فأين هذا من الواقع الدموي اليومي في غزة حيث الآلاف يقتلون دون أن ترتجف عين العالم؟ إن الفقه والعقل معًا يقولان إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فأي مصلحة جُنيت من الطوفان المزعوم غير الخراب الكامل لغزة وتشويه معالمها وتحويل دماء الأبرياء إلى ورقة مساومة على طاولة سياسية باردة؟ إن ما يجري اليوم ليس مقاومة حقيقية ولا مشروع تحرير، بل هو خزعبلات متاجرة باسم الدين وسلعة فقدت صلاحيتها، يروج لها من يريد إطالة عمر الاستبداد الخارجي والوصاية التركية والإيرانية على القرار الفلسطيني، وبينما الحقيقة تنزف في شوارع غزة، يظل السؤال قائمًا: من الذي يقاوم حقًا؟ وأين هي تلك الجحافل والزوارق والصواريخ التي بشّروا بها؟ أم أن الواقع يفضح كذبة كبرى اسمها المقاومة المدعومة من تركيا وإيران، والضحية دائمًا الأبرياء الذين يدفعون الثمن من دمائهم وأرضهم وكرامتهم؟