تردد مصطلح تسونامي سياسي ضد إسرائيل لإي الخطاب السياسي والإعلام العبري لأول مرة منذ 15 عاماً تقريباً. كان رئيس الوزراء السابق إيهودا باراك من أوائل من استخدموا المصطلح، كمواطن قلق على مستقبل الدولة كما قال ذات مرة عن نفسه، في اعتراض على تهرّب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنهجي من عملية التسوية والمفاوضات مع القيادة الفلسطينية، محذراً من فقدان إسرائيل يهوديتها أو ديمقراطيتها، في حال عدم حل الصراع وبالتالي نهاية المشروع الصهيوني.
جادل باراك وآخرون من النخبة السياسية والعسكرية والإعلامية المعادية لنتنياهو – يصفها هذا الأخير بالدولة العميقة – بأن غياب المبادرة من طرف الدولة العبرية، سيؤدي إلى فرض حل خارجي عليها فيما يمكن وصفه بالتسونامي السياسي. جرت مياه كثيرة في جداول فلسطين والمنطقة خلال السنوات الـ15 الماضية، قبل أن يعود المصطلح للظهور بقوة هذه الأيام مع إعلان دول أوروبية وغربية كبرى نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتجاوز وقلب المعادلة التي قامت عليها عملية التسوية، لجهة الاعتراف بالدولة الآن لتسهيل الوصول إلى نهاية العملية لا انتظار هذه الأخيرة للاعتراف بالدولة العتيدة باعتبارها حق طبيعي للفلسطينيين لا خلاف عليه، بعدما كانت الفكرة تُطرح مراراً كمصلحة للدولة العبرية من أجل بقائها يهودية وديمقراطية ولإنقاذها من نفسها مع جنوحها بعيداً عن الأسس التي رافقت تأسيسها وجعلتها جزءاً من المنظومة الغربية القوية والمتنفذة، ما وفّر لها مظلة واسعة متعددة المستويات، ناهيك عن الدور الوظيفي لخدمة المصالح الغربية بالمنطقة.
إذن، ظهر مصطلح تسونامي سياسي ضد إسرائيل في الخطاب السياسي الداخلي منذ سنوات طويلة – 15 سنة تقريباً – مع انهيار حزب العمل واليسار، عموماً، وطي حقبة حزب “كديما”، باعتباره ممثلا للتيار اليميني المركزي بالمعيار الإسرائيلي، طبعاً وبداية حقبة اليمين المتطرف بقيادة حزب الليكود ونتنياهو وحلفائه من الأحزاب الدينية ثم الدينية الصهيونية. وجادل مستخدمو المصطلح بأن سياسة هذا الأخير واليمين عموماً الساعية للحفاظ على الواقع الراهن، وإخفاءه وكنسه تحت مصطلحات برّاقة مثل إدارة وتقليص الصراع أو السلام الاقتصادي، ستؤدي إلى تسونامي سياسي عالمي ضد الدولة العبرية، وفرض حلّ خارجي من قبل المجتمع الدولي الذي لن يتحمل –حتى قبل حرب غزة والإبادة والمجاعة فيها – استمرار الاحتلال بل وحتى مواصلة إسرائيل فرض الوقائع على الأرض لمنع إقامة دولة فلسطينية كما كان الحال مع مشروع “E1” الاستيطاني في محيط القدس الذي يقسم الضفة إلى قسمين، ويمنع التواصل الجغرافي بين شمالها وجنوبها. وعملياً يحول دون إقامة دولة مستقلة متصلة وقابلة للحياة ضمن حدود حزيران/يونيو 1967، بينما عادت الحكومة الحالية بقيادة نتنياهو- بتسلئيل سموتريتش- إيتمار بن غفير، لإحيائه مرة أخرى ضمن مساعي فرض حل نهائي من طرف واحد يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية وإزاحتها عن جدول الأعمال نهائياً.
شهدت السنوات الـ15 الماضية، استغلال نتنياهو اندلاع الثورات العربية وانتظار مآلاتها، خوفاً من صعود الإسلاميين لتجميد عملية التسوية برمتها ثم انكفاء أميركا عن المنطقة إثر محاولة فاشلة للتوصل إلى حل زمن إدارة باراك أوباما، وقبولها عملياً سياسة الواقع الراهن، بتفاهم ضمني مع تل أبيب شرط ألا ينفجر هذا الواقع ويفيض على فلسطين والمنطقة وحتى العالم كما جرى فعلاً في حرب غزة الأخيرة.
خلال تلك الفترة، سعى نتنياهو كذلك إلى إدامة الانقسام والفصل بين غزة والضفة الغربية، والعمل على تقديم تسهيلات اقتصادية للسلطتين للبقاء على قيد الحياة، ولكن مع استغلال الانقسام كذريعة للتهرب من المفاوضات وعملية التسوية برمتها.
حاول نتنياهو وبشكل تكتيكي الاستفادة من وصول دونالد ترامب إلى السلطة -2016- واستثمار “اتفاقيات أبراهام” لقلب المعادلة التي قامت عليها عملية التسوية “مدريد- أوسلو”، الأرض مقابل السلام، لتصبح السلام مقابل السلام والتطبيع مع الدول العربية بتجاهل المسار الفلسطيني، لكن السيرورة الجديدة أفضت إلى نتيجة قاطعة مفادها أن لا إمكانية لتجاوز القضية الفلسطينية باعتبارها جذر الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة.
استسلم جو بايدن-2020- كذلك لفكرة الواقع الراهن حتى مع النأي عن “اتفاقيات أبراهام” وعودة الاهتمام نسبياً أو مرحلياً بالقضية الفلسطينية، إثر هبة الشيخ الجراح ومعركة سيف القدس-2021-، ودعوة الرئيس محمود عباس إلى إجراء الانتخابات العامة، ثم انتهت القصة كلها مع إلغاء الانتخابات والعودة للواقع الراهن مع انشغال بايدن بالغزو الروسي لأوكرانيا وإيران ومشروعها النووي أيضاً.
انفجر الواقع الراهن في فلسطين وفاض على الإقليم والعالم، إثر عملية “طوفان الأقصى” وحرب غزة التي فتح الغرب بعدها نافذة زمنية سياسية ودبلوماسية وعسكرية واقتصادية واسعة لإسرائيل، بحجة الدفاع عن أمنها والرد على الطوفان.
مع ذلك اعتقد الغرب والعالم كله أن الحرب انتهت منذ أكثر من عام “أيار/ مايو”، وبالحد الأدنى أب/أغسطس 2024، إثر الانتهاء من اجتياح وتدمير مدينة رفح بعد محافظات الشمال وغزة وخانيونس، مع التنبه إلى أن الصراع لم يبدأ في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ولا جدوى من تجاهل جذوره بعدما فهمت إدارة بايدن ومعها أوروبا، أن لا إمكانية لوقف وإنهاء الحرب دون أفق ومسار سياسي وفق ما يعرف باليوم التالي ليس في غزة وإنما الضفة والقضية الفلسطينية بشكل عام.
تغير الموقف الأميركي مع إدارة ترامب الثانية، التي وفرت نافذة زمنية وسياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية إضافية لإسرائيل، لكن نتنياهو مضى بعيداً في الحرب، وكسر اتفاق الهدنة في كانون الثاني/يناير، وتجاهل مفاوضات إنهاء الحرب وتعاطي بلا مبالاة مع الخطة المصرية العربية المدعومة دولياً، وواصل الإبادة في غزة حتى المجاعة، ففقد العالم صبره وأقفل نهائياً النافذة التي فتحها للدولة العبرية.
وعليه عاد التسونامي السياسي وتحقق فعلاً عبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية من البيئة الغربية الحاضنة لإسرائيل، باعتبار الدولة حق طبيعي للفلسطينيين وأيضاً لإنقاذ الدولة العبرية من الجنون والانتحار مع تحذيرات من تحوله مع الوقت إلى تسونامي اقتصادي وعسكري وتكنولوجي إثر دعوات دولية جادة لمقاطعة تل أبيب وفرض عقوبات صارمة ضدها لإعادتها الى رشدها.
في الأخير وباختصار وتركيز، نحتاج بالضرورة إلى مواكبة فلسطينية لهذا التسونامي السياسي متعدد الأبعاد عبر إنهاء الانقسام والتوافق على قيادة واستراتيجية وطنية موحدة مدعومة عربياً ودولياً لعزل الدولة العبرية واجبارها على الرضوخ للقوانين والمواثيق الدولية، أو مواصلة طريق الانتحار لكن وحدها ودون أن تجرنا معها إلى نهايتها الحتمية.