قبل عشر سنوات، كنتُ قد أجريتُ مقابلات مع نساء وفتيات هربن من داعش. فحينما اجتاحت تلك المنظمة الإرهابية شمال العراق (٢٠١٤) وانتزعت الإناث من عوائلهنَّ وأخذتهن إلى دولة الخِلافة، أُجبرت على الزواج كلُّ مَن كانت في التاسعة من عمرها أو أكبر. ففي ظل تلك القوانين المنحرفة التي وضعها التنظيم، كان الاعتداء الجنسي على القاصرات يعدُ أمراً مقبولاً شرعياً. والواقع أنَّ مقاتلي داعش أكدّوا بأنهم كانوا ينفّذون مشيئة الله. وبالرغم من أنَّ الحكومة العراقية خاضت صراعاً مع تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنّ أعضاءً من البرلمان العراقي ينادون الآن بتشريع قانون يوازي ممارسات داعش. فمن شأن التعديل المقتَرَح لقانون الأحوال الشخصية (١٩٥٩) أن يشرّع زواج القاصرات فعلياً وهو تشريع لا يقلّ بربرية عن الممارسات الداعشية التي عانت منها الفتيات اللواتي كنت قد قابلتهنّ بل هو خيانة لشجاعتهن ومقاومتهن الظلم، ويشكل خطوة إلى الوراء فيما يتصل بحقوق وكرامة المرأة العراقية.
قانون الأحوال الشخصية الذي كان قد أقرَّتهُ حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم يُعَد من بين أكثر القوانين المدنية تقدمية في العالم العربي، إذ منحت بنودهُ حقوقاً متساوية لجميع العراقيين، بغض النظر عن طوائفهم، ووضعت معياراً عادلاً إلى حد ما لأمور الزواج والطلاق والميراث، معتمداً على قانون محاكم الدولة وأن يكون السن القانوني للزواج ثمانية عشر عاماً، أو خمسة عشر عاماً بموافقة قضائية خاصة. في الشهر الماضي، أكمل البرلمان العراقي قراءته الأولى للتعديل المقترح، والذي من المقرّر أن يخضع للمناقشة قبل التصويت النهائي. وإذا تم إقراره، فإنه سيسمح للأشخاص المقبلين على الزواج بالاختيار بين أحكام قانون الأحوال الشخصية أو أحكام المدارس الفقهية الإسلامية (الشريعة)، والتي تسمح بزواج الأطفال وتعدّد الزوجات. وهذه الأحكام ليست موحّدة إذ تختلف التفسيرات على نطاق واسع بين الطوائف. على سبيل المثال، تسمح المدرسة الجعفرية، التي يتبعها العديد من المسلمين الشيعة، للفتيات في سن التاسعة والأولاد في سن الخامسة عشرة بالزواج. من شأن التشريع المقترح أن يمنح المؤسسة الدينية السلطة على الشؤون الشخصية التي كانت في السابق خاضعة لقضاء الدولة. علاوة على ذلك، فإنه يتطلب من مجلس علماء ديوان الوقف الشيعي ومجلس الفتوى في ديوان الوقف السني صياغة “مدونة أحكام الشريعة الإسلامية في مسائل الأحوال الشخصية” في فترة لا تزيد عن ستة أشهر من دخول القانون حيز التنفيذ، ومن شأن هذه العملية أن تتجاوز المراجعة البرلمانية والعامة.
ويحتوي المشروع على أحكام أخرى مثيرة للقلق كذلك. فإذا كان الزوجان ينتميان إلى طوائف مختلفة، فسوف يحدّد الزوج الشريعة التي يريد. ومن المرجّح أن يؤدي هذا إلى تعميق الانقسامات الطائفية بين الشيعة والسنة والفئات من غير المسلمين. ومن شأن التعديل أيضاً أن يضفي الشرعية على الزيجات غير المسجلة، والتي يعقدها رجال الدين ولكن لا يتم تسجيلها في المحكمة..
إنَّ احتمال تشريع زواج القاصرات هو أحد أعراض الأزمة العميقة التي يعاني منها العراق حالياً، والتي هي بمثابة تغليب رؤية تمنح الأولوية للتقاليد وليس للتقدم، للسيطرة وليس للتمكين، للصمت وليس للتعبير. وحتى قبل اقتراح التشريع الحالي، كانت البلاد تواجه أزمة متنامية بخصوص زواج القاصرات. ووفقاً لمنظمة اليونيسيف، فإن أكثر من ٢٨٪ من البنات العراقيات يتزوجن قبل سن الثامنة عشرة. وقد ارتفع هذا الرقم بشكل مطرد بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام ٢٠٠٣ عندما فازت الأحزاب الدينية بالسلطة وأصبحت المؤسسة الدينية تلعب دوراً بارزاً في الحياة السياسية وتعرقل الحريات المدنية باعتبارها “إقحامات غربية.“ ومع ذلك، سيكون من التبسيط أن نعزو هذه الأزمة إلى رجال الدين فقط، فقد عانى العراق منذ فترة طويلة من ظروف استثنائية صعبة.
المروجون للتعديل يسوّقون الأمر على أنه دفاع عن الحرية الدينية بحجة أنه سيسمح ببساطة لأتباع الطوائف المختلفة بإدارة شؤونهم الشخصية كما جاء في مقال الدكتور فارس كمال نظمي، أستاذ علم النفس الاجتماعي، إذ أنهم ”يريدون إظهار الأمر كما لو إنه تفعيل ديمقراطي لحرية دينية يمارسها أتباع كل مذهب في أحوالهم الشخصية بشكل مجتزأ ومنعزل، مع تغافلهم المقصود عن النظر في العواقب الكلية لهذا التعديل وما سينتجه من اعتلالات دستورية وقانونية وقضائية واجتماعية ونفسية ذات طابع كارثي.“.
يعارض العديد من الشباب العراقيين هذا التشريع، ولا يعتبرونه تفويضاً إلهياً بل انعكاساً للسيطرة الأبوية على النساء. بالنسبة لهم، هذا قانون سلطوي ولا يعكس تطلعاتهم المجتمعية الأوسع. وقد قاد عددٌ من الناشطين والداعين إلى حقوق الإنسان احتجاجاتٍ واسعة النطاق. وقد تحالفت خمسة عشر إمرأة برلمانية من أحزاب مختلفة في معارضة مشروع القانون بالرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهنها.
في حال تمرير هذا القانون، ستؤدي نتائجهُ إلى المزيد من العنف والتحيّز الجنسي بما يلحق ضرراً ببنية البلد الاجتماعية. كما أنّ تشريع زواج القاصرات من شأنه أن يخلّف آثاراً وخيمة على مستويات تعليم الإناث وتوظيفهن. فالفتيات اللاتي يتزوجن قبل أوانهن أكثر عرضة للانقطاع عن الدراسة، وهذا يقلّص عدد النساء المتعلّمات ويقلّل مشاركة الإناث في القوى العاملة وأدوار القيادة والسياسة بما يرسّخ الأعراف الأبوية التي تقف بالضد من كل أمل بالتقدّم.
زواج القاصرات هو انتهاك ليس فقط لحقوق الإنسان ولكن لعوالم الطفولة ذاتها. ففي حياة كل طفل، هناك فترة حساسة يكتشف فيها متع الحياة البسيطة، حيث يبدو المستقبل مغامرة بعيدة غير مدعاة للهموم. تشريع زواج القاصرات من شأنه أن يسرق ذلك الملاذ. سيخيم الصمت على روح كل فتاة تتزوج قبل أوانها، ويتردّد صداهُ في تساؤل عما كان يمكن أن يحدث لو اختلفت الظروف. والصمت ليس صمتهن فحسب بل هو صمتنا أيضًا. إنه صمت مجتمع يسمح لطفلة في التاسعة من عمرها بأن تُجبر على أن تكون زوجة قبل أن تفهم ما يعنيه أن تكون فتاة صغيرة. هنا لابد لنا أن نستذكر أنخيدوانا، أول شاعرة في العالم، والتي عاشت في بلاد مابين النهرين خلال فترة من الاضطرابات السياسية والصراعات الدينية والسلطوية بين الملوك ورجال الدين في تلك المنطقة. وباعتبارها ابنة الملك سرجون الأكدي، احتلت أنخيدوانا مكانة مميزة أتاحت لها تحدّي الفساد والظلم. وفي إحدى قصائدها تضرّعت لإنانا، إلهة الحب والحرب والانتقام الإلهي، بقولها: “ولكن في أرضك العدائية، كشفتِ عن عدالتكِ.“
تشريع زواج القاصرات خيانة لجوهر ما دافعت عنه أنخيدوانا: قوة الصوت وقدسية الاختيار والسعي الدؤوب لتحقيق العدالة. إنه خيانة لتراث ثقافي احتفى منذ القِدَم بقوة المرأة وحكمتها. إن نداء الطفلة التي تستحق اللعب والتعلم والنمو بأمان هو نداء لنا لإقامة عالم يمكن فيه لهذه الطفلة أن تعيش حياة مليئة بالإمكانات. في تصوّري لمستقبل هؤلاء الفتيات، أرى عالماً زاخراً بالعقول المتلهفة للتعلّم حيث تتمتع كل فتاة بفرصة النمو لتصبح المرأة التي تختار أن تكونها. أرى عالماً يحميهن فيه القانون بدلاً من إيداعهن في مصير لا يقدّم أكثر من البقاء على قيد الحياة. لا ينبغي أن تكون هذه الرؤية مجرّد حلم.