يبدو أن نعوم تشومسكي بلغ نهاية الشوط. ومع الاقتراب من نهاية تبدو معلومة، شرع البعض في الكتابة عنه. وفي السياق، قرأت كلاماً يصفه بالمثقف التنويري، الذي يصعب تدجينه. يعني: هو منوّر وعصي على التكميم والتطويع.
يُقال هذا الكلام بلا تفسير للتنوير، أو الاستعصاء، بطبيعة الحال، اضافة إلى توابل مألوفة، ولا غنى عنها، من فصيلة المثقف العضوي. والصحيح أن تشومسكي ليس منوّرا، وصفة العصي على التدجين، كما العضوي، تبدو تكريمية وفائضة عن الحاجة إلى حد بعيد.
ينتمي تشومسكي، وجوديث بتلر (وإدوارد سعيد) إلى قائمة طويلة تضم ما يطلق عليه الأميركيون تعبير المثقف العام The Public Intellectual وتكاد هذه الصفة تكون أميركية صرفه، وهي أوسع، وأقل إشكالية، من صفتي المثقف الملتزم، والعضوي.
إذا حاولت اقناع الناس في السعودية بأن الأرض كروية تكون منوّراً. وإذا كنت من فصيلة الكتّاب الذين تسلّقوا السلم الاجتماعي، وسيطروا على الحقل الثقافي، بمديح السلطة السائدة، والانتماء إلى الحزب الحاكم، تكون مدجناً. وتكون عضوياً إذا انتميت إلى الطبقة العاملة، بالولادة أو الإرادة، مع ملاحظة أن لكل طبقة اجتماعية مثقفها العضوي، أيضاً. لذا، يصعب حبس تشومسكي في تصنيفات كهذه.
والأهم: أن نقتدي في الموقف من تشومسكي، بإدوارد سعيد في معالجته البديعة “فرويد وغير الأوروبيين”، ففي التركيز على مصرية موسى في “موسى والتوحيد” حاول فرويد في سنواته الأخيرة (بتأويل إدوارد سعيد، الذي سرعان ما تبناه آخرون) بعدما شهد صعود الحصرية اليهودية ممثلة بالصهيونية، والحصريات الأوروبية ممثلة بالفاشية، مقاومة الحصرية اليهودية، وشوكتها القيامية (كما وصفها غيرشوم شولم) بالتركيز على تعددية المصادر الأصلية لليهودية.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بتشومسكي فإن حياته المهنية، ومكانته البارزة في الحقل الثقافي الأميركي والعالم، وهو ابن المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية، هي الدليل الحي أولاً، على نجاح الاندماج (العدو اللدود للصهيونية) وثانياً، على استمرارية التقاليد الراديكالية العابرة للقوميات، التي ارساها جيل من المثقفين اليهود (اطلق اسحق دويتشر على ممثليه صفة اليهودي اللايهودي) وثالثاً، على نجاح النموذج الأميركي في إنشاء هوية تعددية من مصادر مختلفة (الهوية التي يسعى تحالف اليمين الديني، والعنصريات القومية البيضاء إلى تدميرها).
هذه هي الدلالات الأبعد لمعنى تشومسكي، والمصادر الثلاثة التي كوّنته، وفي سياقها تتضح فرادة، وأهمية، المثقف العام الكبير، والإنسان العظيم، الذي كان صديقاً لشعبنا، ونصيراً للحرية، ومعادياً للكولونيالية والاستبداد في العالم.