في واحدة من أكثر التصريحات إثارة للجدل منذ اندلاع الحرب على غزة، تحدث القيادي في حركة حماس، موسى أبو مرزوق، عن إمكانية “تأمين المستوطنات الإسرائيلية” في حال التوصل إلى تسوية شاملة.
التصريح، الذي جاء في سياق حديثه عن ترتيبات ما بعد الحرب، فُسّر على نطاق واسع كتحوّل في نبرة الخطاب السياسي للحركة، بل وكإشارة إلى انفتاح على صيغ تفاوضية جديدة. لكن ما وراء هذا الكلام أبعد من مجرد جملة إعلامية — فهو يعكس حسابات معقدة بين البقاء السياسي، وضبط الخطاب المقاوم، وتحوّلات
توقيت التصريح ليس اعتباطياً. فبعد حرب مدمّرة وتوازن ميداني هش، تدرك حماس أن استمرار المواجهة المفتوحة ليس خياراً عملياً، وأن المرحلة المقبلة قد تفرض على جميع الأطراف لغة جديدة أكثر عقلانية وأقل شعاراتية.
من هنا، بدا أن أبو مرزوق أراد توجيه رسالة مزدوجة:
أولاً للوسطاء الدوليين والإقليميين، بأن حماس قادرة على لعب دور منضبط في ترتيبات الأمن الإقليمي.
وثانياً للداخل الفلسطيني، بأن الحركة ليست معزولة عن مسار التسويات المحتملة، مهما بدت بعيدة الآن.
لكن هذه اللغة، مهما اتّسمت بالمرونة، تطرح سؤالاً وجودياً على الحركة: إلى أي مدى يمكن لحماس أن تتحدث بلغة “الدولة” دون أن تفقد شرعيتها كحركة مقاومة؟
تُظهر تصريحات أبو مرزوق ملامح تباين داخل أروقة القرار في حماس بين جناحين رئيسيين:
الجناح السياسي الذي يحاول استثمار أي مساحة دبلوماسية لتحسين موقع الحركة في الترتيبات المقبلة.
الجناح العسكري الذي يرى أن أي تليين في الخطاب قد يُفهم كتنازل عن جوهر المشروع المقاوم.
هذا التباين ليس انقساماً، لكنه يعكس صراعاً في مقاربات البقاء: هل تبقى حماس لاعباً ميدانياً متمسكاً بالسلاح إلى النهاية، أم تتحول تدريجياً إلى قوة سياسية تفاوضية تتعامل مع “الواقع” دون الاعتراف به بالكامل؟
إقليمياً، قوبلت تصريحات أبو مرزوق باهتمام هادئ من القاهرة والدوحة، اللتين تنظران إلى أي براغماتية حمساوية باعتبارها نافذة محتملة لتخفيف التوتر في غزة، وتسهيل مفاوضات التهدئة وإعادة الإعمار.
أما على الصعيد الدولي، فقد قرأت بعض الدوائر الغربية الخطاب كمحاولة من حماس لتسويق نفسها كـ”ضامن أمني محتمل” وليس كخصم دائم. ومع ذلك، فإن الغرب، شأنه شأن إسرائيل، لا يزال يتعامل مع الحركة بمعايير أمنية صارمة، ويرى أن أي حديث عن “تأمين المستوطنات” يظل افتراضاً نظرياً غير واقعي ما لم يترافق مع تغيير جوهري في البنية العسكرية والسياسية للحركة
يبقى السؤال المركزي: هل ما قاله موسى أبو مرزوق يمثل تحولاً استراتيجياً في فكر حماس أم مجرد مناورة سياسية ظرفية؟
الراجح أن الحركة تمارس تكتيك التهدئة المشروطة
أي أنها توازن بين خطاب موجه للعالم الخارجي يسعى لإثبات “المسؤولية السياسية”، وخطاب موجه للداخل الفلسطيني يؤكد “استمرار المقاومة”.
بهذه الازدواجية، تحاول حماس أن تحافظ على مساحة مرنة للحركة والمناورة دون خسارة شرعيتها أو قدرتها على التفاوض في المستقبل.
تصريحات موسى أبو مرزوق لا يمكن قراءتها كتحول أيديولوجي، بقدر ما هي مؤشر على تحول في أولويات الخطاب داخل حماس. فالحركة التي طالما قدّمت نفسها كعنوان للمقاومة، تجد نفسها اليوم مضطرة إلى التفكير بلغة البقاء السياسي وإدارة الواقع.
وفي ظل اشتداد الضغوط الإقليمية وتغير المزاج الدولي، يبدو أن حماس تُعيد تعريف ذاتها — لا كحركة تتخلى عن المقاومة، بل كقوة تحاول أن تُعيد تموضعها في معادلة السلطة والأمن والسياسة في آنٍ واحد.
وربما هنا تكمن معضلتها الحقيقية:
كيف تحافظ على روح المقاومة وهي تقترب من منطق الدولة؟
وإلى أي مدى يمكن لهذا التوازن أن يصمد أمام حقائق الميدان وسقف الشارع الفلسطيني








