أصدر مركز ثبات للبحوث واستطلاعات الرأي تقدير الموقف رقم 1 لسنة 2025 حول “المطلوب من حركة حماس لاستعادة توازن الشعب الفلسطيني، وتقليص الأعباء” ضمن سلسلة الأوراق السياساتية وتقدير الموقف التي يصدرها المركز للعام 2025. تتناول هذه الأوراق قضايا سياساتية داخلية وخارجية تهم المجتمع الفلسطيني وصانع القرار.
مقدمة
أثار تصريح موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي لحركة حماس لصحيفة نيويورك تايمز في 24 شباط/ فبراير 2025 القاضي بأنَّ “معرفة هذه العواقب كانت لتجعل دعم مثل هذا الهجوم مستحيلاً، لو علمنا أن ما كان يحدث سيحدث لما كان هناك 7 أكتوبر” النقاش من جديد حول التقييم السياسي لـ”طوفان الأقصى”، وللجوانب المختلفة لما جرى قبل وأثناء العملية ومساراتها ومآلاتها أو تحقيق أهدافها من جوانب متعددة تُأخذ بالحسبان أثناء التخطيط لها وعدم الاقتصار على الجانب العسكري.
إنَّ عملية التقييم عادة تتم من أجل النظر في النجاحات والاخفاقات ومتطابقة الجوانب العملياتية مقارنة بالجوانب السياسية؛ خاصة في حالة التحرر الوطني، والأثمان المندرجة أو المتوقعة أو المدفوعة في سياق عملية متكاملة لاستخلاص العبر وفهم الدروس واستيعاب المبتدأ والخبر.
تهدف هذه الورقة “تقدير الموقف” الى تقديم مقترحات تساهم في تقليص الأعباء الناجمة عن الحرب التي رافقت السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023، وتضمن مصلحة المواطنين الفلسطينيين ومستقبل القضية الفلسطينية، وتركز على ضرورات المراجعة الداخلية لحركة حماس فيما يتعلق بالمطلوب منها بعد هذه الحرب الطويلة التي خاضها الشعب الفلسطيني إثر قرار الحركة بالعملية العسكرية الواسعة المتمثلة بـ “طوفان الأقصى”.
تستعرض الورقة قواعد التخطيط اللازمة كشرط لنجاح العملية العسكرية وفهم المخاطر السياسية، وتنظر في أهداف عملية “طوفان الأقصى”، ثم تعرض الأحكام المسبقة لدى الفلسطينيين والإسرائيليين عن بعضهما البعض، ومن ثم الأرباح والخسائر “لطوفان الأقصى”، وأخيراً تم وضع عدد من المقترحات المطلوبة من حركة حماس مراجعتها للمساعدة على إعادة توازن الشعب الفلسطيني وتقليص الأعباء.
(1) العملية العسكرية وشروط النجاح
يتطلب التخطيط المدني والعسكري واتخاذ القرارات العسكرية والسياسية الاستناد على عدد من القواعد اللازمة لضمان النجاح وتحقيق الأهداف وهي: أولاً: قاعدة العناية الواجبة أيْ الأخذ بالأسباب والتحوط لكل ما يمكن أنْ يفسد المهمة ويحرفها ويضعف الأداء اثناء القيام بها، أي بمعنى أدق العمل من أجل ضمان نجاح العملية أو المهمة. وثانياً: قاعدة العناية بتحقيق النتائج أي ضمان تحقيق النتائج المتوخاة. وثالثاً: قاعدة إدارة المخاطر الواجبة في احتساب المخاطر المحتملة أو القائمة، وذلك للتحوط والاستعداد اللازم لردود الأفعال الإسرائيلية والدولية لهذه العملية.
بالرغم من النجاح الكبير غير المتوقع للعملية العسكرية صباح يوم السابع من تشرين أول/ أكتوبر باختراق الحدود والوصول إلى القواعد العسكرية والبلدات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، إلا أنّ وثائق حركة حماس المتعلقة بطوفان الأقصى سواء بيان محمد الضيف قائد أركان كتائب القسام انطلاق العملية أو وثيقة المائة يوم التي أصدرتها تحت عنوان “هذه رؤيتنا … لماذا طوفان الأقصى” تشيران إلى أنّ القاعدة الأولى أيْ الأخذ بالعناية الواجبة لم تأخذ على محمل الجدّ بما يضمن القيام بالعملية “عملية نظيفة” دون أخطاء يمكن أنْ تهدد نجاح العملية أو تؤثر مستقبلاً على نجاعتها.
أشارت وثيقة “هذه رؤيتنا … لماذا طوفان الأقصى” بوضوح أنّ العناية الواجبة تم خرقها عندما لم يتم التحوط لمنع دخول المواطنين للبلدات الإسرائيلية بشكل عشوائي (ربما يكون قد حدث بعض الخلل أثناء تنفيذ عملية طوفان الأقصى، بسبب انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بشكل كامل وسريع، وحدوث بعض الفوضى نتيجة الاختراقات الواسعة في السياج والمنطقة الفاصلة بين قطاع غزة ومناطق عملياتنا). كما أظهر بيان محمد الضيف أنّ الهدف من العملية واسع، “اليوم، نعم اليوم، يستعيد شعبنا ثورته، ويصحّح مسيرته، ويعود لمشروع التحرير والعودة وإقامة الدولة، بالدم والشهادة”، ويتعدى قدرات حركة حماس في قطاع غزة؛ خاصة أنّ هذه العملية لم يتم تنسيقها مع القوى الوطنية والإسلامية أو حتى مع الحلفاء أو حتى جناحها العسكري في الضفة الغربية؛ فالتحرير يحتاج إلى جمع جميع القوى في بوتقة واحدة على الأقل.
أما ما يتعلق بإدارة المخاطر ذات الأهمية في فهم ردود الأفعال المتوقعة أو المحتملة واحتساب التكاليف الناجمة عن هذه العملية؛ خاصة أنّ الضحايا المتوقعين هم المواطنون وممتلكاتهم وحياتهم وحياة أسرهم مقارنة بما يمكن أنْ تحققه كإطلاق سراح الأسرى التي تُعدُ قضية أساسية للفلسطينيين ومهمةُ الكل الفلسطيني لضمان حريتهم ووقف معاناتهم، ففي حالة أن تكلفة منع الخطر أكبر من تكلفة الخطر ذاته يمتنع أصحاب القرار من التصدي للخطر.
وفي هذا الشأن فإنّ تقدير الموقف يحتاج إلى قراءة سياسية أعلى من مهمة الإعداد للعملية العسكرية من جهة، ويحتاج إلى توسيع المشاورات من خارج الإطار الواحد والاستماع بانتباه للناقدين والمعارضين لما يحققه من إعادة النظر بعيون أوسع وأكثر قدرة على فحص المخاطر من جهة ثانية.
إنّ عدم الأخذ بالعناية الواجبة والعناية بتحقيق النتائج بما ينسجم مع القدرات المتوفرة وغياب المشاورات وعدم الأخذ بعين الاعتبار إجراءات إدارة المخاطر أدّى إلى تجاوز الخطوط المقبولة للمجتمع الدولي خاصة ما يتعلق بمهاجمة البلدات الإسرائيلية وأسر عدد من المدنيين بما فيهم كبار السن وأطفال مما أفقد الفلسطينيين في تلك اللحظة التضامن الدولي العنصر الأساس لضمان مشروعية العملية العسكرية الواسعة “طوفان الأقصى” والداعم للنضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
(2) أهداف عملية “طوفان الأقصى”
يثير بيان انطلاق عملية “طوفان الأقصى” الذي ألقاه محمد الضيف صبيحة يوم السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023 لغطاً في أهداف العملية ذاتها؛ أهي حرب تحرير لكامل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948 “لتطبيق وعد الآخرة” أو تحرير الأراضي المحتلة عام 1967، أم أنّ هذه عملية لتحريك القضية الفلسطينية وتعديل موازين القوى. فمن جهة يصف البيان في مقدمته إقامة دولة إسرائيل على حساب الفلسطينيين لكنه ينتقل سريعاً في الفقرة الثانية للقول إنّ الاحتلال الإسرائيلي لم يحترم القانون الدولي والقرارات الدولية (بعض هذه القرارات هي من أنشأت دولة إسرائيل في هذه المنطقة) “سبق وحذّرنا قادة الاحتلال من استمرار جرائمهم، وأَهَبْنا بقادة العالم التحرك لوضع حدّ لجرائم الاحتلال بحقّ ومقدساتنا وشعبنا وأسرانا وأرضنا، ولإجبار الاحتلال على الالتزام بالقانون الدولي وبالقرارات الدولية. فلم يستجب قادة الاحتلال، ولم يتحرك قادة العالم، بل ازدادت جرائم الاحتلال وتجاوزت كل الحدود”.
عدّدَ البيان الأسباب الدافعة لعملية “طوفان الأقصى” كما يلي: (1) ما يحيق بالمسجد الأقصى من مخاطر والاعتداءات المستمرة من قبل الاحتلال والمستوطنين والتخوف من هدمه وبناء الهيكل المزعوم. (2) استمرار احتجاز الأسرى الفلسطينيين ومعاناتهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي. (3) اقتحامات قوات الاحتلال للمدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية. (4) استمرار الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية من أجل زيادة الاستيطان وتفاقم اعتداءات المستوطنين على المواطنين. (5) فرض الحصار المجرم على قطاع غزة.
هذه الدوافع التي سردها البيان جميعها تتعلق بممارسات الاحتلال للأراضي المحتلة عام 1967، ويدعم هذا الاعتقاد ما جاء في الدعوة التي وجهها الضيف في البيان إلى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 “يا أهلنا في الداخل المحتل، في النقب والجليل والمثلث، في يافا وحيفا وعكا واللد والرملة، أشعلوا الأرض لهيباً تحت أقدام المحتلين الغاصبين، قتلاً وحرقاً وتدميراً وإغلاقاً للطرقات، وأَفْهموا هذا المحتل الجبان أنّ طوفان الأقصى أكبر ممّا يظن ويعتقد” مقارنة بالدعوة التي وجهت للمواطنين في الضفة الغربية التي دعتهم لكنس الاحتلال “اليوم يومكم لتكنسوا هذ المحتل ومستوطناته عن كل أرضنا في الضفة الغربية”. ثم أتْبَعَ البيان أنّ عملية طوفان الأقصى جاءت ” في ظل هذه الجرائم المتواصلة بحقّ أهلنا وشعبنا، وفي ظل عربدة الاحتلال وتنكُّره للقوانين والقرارات الدولية، وفي ظل الدعم الأميركي والغربي والصمت الدولي، فقد قررنا أن نضع حدّاً لكل ذلك بعون الله، ليفهم العدو أنه قد انتهى الوقت الذي يعربد فيه دون محاسب”.
في المقابل أضافت وثيقة حماس التي نشرتها بمرور مائة يوم على طوفان الأقصى “هذه رؤيتنا ….لماذا طوفان الاقصى” وماذا يفعل ليحقق أمل 7 مليون فلسطيني بالعودة إلى ديارهم بعد 75 عاما من النفي والشتات” وأضافت الوثيقة “كانت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م، خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة ما يحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، وخطوة طبيعية في إطار التخلص من الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”.
إنّ تبني هذه الأهداف والتوجهات ودعوة الفلسطينيين في الساحات المختلفة والحلفاء في الجبهات المتعددة الأطراف المختلفة يحتاج إلى مسألتين رئيسيتين؛ الأولى: الإعداد والتهيئة في الساحات المختلفة وهي لم تأخذ بالحسبان وربما اعتبرتها خلية الإعداد “المجلس العسكري المحدود” أنّها تحصيل حاصل أو التعامل بأن الأطراف تتبع المركز دوماً بغض النظر عن التهيئة الواجبة لتفعيل الساحات. والثانية: التنسيق مع الجبهات “إيران وحزب الله وحلفائهم” كي تكون مستعدة للمشاركة الفعالة لكن على ما يبدو أنّ ذلك لم يكتمل وكان يحتاج إلى المزيد من الوقت وفقاً لما تم كشفه في الوثائق المسربة عن اجتماعات المجلس العسكري المحدود الذي أَعَدَ “المشروع الكبير”.
(3) التمثلات الخاطئة للفلسطينيين والإسرائيليين عن بعضهما البعض
بانت التمثلات القائمة لدى الفلسطينيين والإسرائيليين بأنّها خاطئة أو جانبها الصواب أو بمعنى آخر لم تكن دقيقة وهي جزء من التخيلات الماثلة عن بعضهما البعض في السنوات الماضية. اعتقد الفلسطينيون أنّ المجتمع الإسرائيلي لا يستطيع الاستمرار في حرب طويلة، وأنّه يعتمد على الحروب الخاطفة وهو يفضلها على أنْ لا تكون على أرضه وذلك اعتماداً على الحروب التي خاضتها إسرائيل على مدار السنوات الماضية، وأنّ الإسرائيليين/ الحكومات الإسرائيلية حساسون بشكل كبير على حياة الإسرائيليين بمنع وقوعهم أو بقائهم في الأسر لفترات طويلة.
في الواقع الأمر مغاير حيث مكث شاليط حوالي خمس سنوات وأسرى أو جثث جنوده حرب عام 2014 لها تسع سنوات قبل بدء الحرب على غزة إثر السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023. كما أنّ الفلسطينيين يظنون أنّ الإسرائيليين يهرولون هرباً لمغادرة إسرائيل للخارج حال اندلاع الحرب بأعدادٍ كبيرة، كما أن الاقتصاد الإسرائيلي لا يتحمل أضرار الحرب أو أن الإسرائيليين لا يتحملون الخسائر.
يبدو أن من خطط بنجاح للعملية العسكرية يوم السابع من تشرين أول/ أكتوبر قد غابت عن ذهنه التحولات العميقة في المجتمع الإسرائيلي فمن جهة الانزياح نحو اليمين واليمين الفاشي وتأثيرات الصهيونية الدينية بأشكالها المتعددة وتحكم المستوطنين في ناصية الحكم في إسرائيل، ومن جهة ثانية أنّ أغلب الإسرائيليين هم اليوم من مواليد إسرائيل أو المستوطنات في القدس والضفة الغربية وليسوا مهاجرين أي لديهم ارتباط بهذه الأرض، ومن جهة ثالثة أنّ فكرة الدولة اليهودية متأصلة لدى جميع الإسرائيليين على اختلاف منابتهم وأصولهم وتياراتهم الفكرية والسياسية بغض النظر عن الصراع القائم في المجتمع الإسرائيلي حول شكل وطبيعة مؤسسة الحكم وليس حول الدولة ذاتها؛ فالمعارضة بخلاف مع الحكومة من داخل النظام السياسي بما يحقق سياسات وتطلعات فئات اجتماعية بعينها ومصالحها مع وجود مؤسسات ضامنة لاحترام مصلحة الجمهور كحراس العتبة والمحاكم وغيرها.
في المقابل، اعتقد الإسرائيليون أنّ الفلسطينيين يخضعون لهول التوحش الإسرائيلي أو بمزيد من الضغط القائم على تدمير حياتهم؛ كتدمير البنية التحتية التي أنشأها الفلسطينيون على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، وشقى عمرهم بتكوين أسرهم ومنازلهم وأعمالهم وممتلكاتهم، ولشظف العيش والنزوح المستمر. كما ظن الاسرائيليون أنّ التنكيل المستمر بالفلسطينيين يمكن أنْ يستسلموا للاحتلال بناءً على فكرة الجدار الحديدي، لدى الصهيونية التصحيحية التي ينتمي إليها أغلب أعضاء مجلس الوزراء، القائمة على القوة العسكرية في فرض سيطرة إسرائيل. يعتقد رئيس الحكومة الإسرائيلية أنّ إطالة أمد الحرب تمكنه من التغلب على الخسائر المعنوية التي مُنيت بها يوم السابع من تشرين أول/ أكتوبر وتضمن له مزيداً من الوقت لزيادة معاناة الفلسطينيين وضرب الحاضنة الشعبية لفصائل المقاومة.
إنّ النجاح الكبير للعملية العسكرية صباح يوم السابع من تشرين أول/ أكتوبر باختراق الحدود والوصول إلى القواعد العسكرية والبلدات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة، واستمرار المقاومة على مدار أكثر من خمسة عشر شهراً، قد دحضت تمثلات وافتراضات الاحتلال الإسرائيلي المسبقة القائمة على الفكر الاستعماري وأنّها لم تكن قادرة على فهم طبيعة المجتمع الفلسطيني أو تخيل قدراته على الصمود والمواجهة، وقدرته على التحليل التحرري لفهم طبيعة الصراع والتناقض الرئيسي المتمثل بالاحتلال وأولوياته والتناقض الثانوي القائم على المصالح المتعارضة لقوى الشعب والفصائل الفلسطينية وأولوياتها. في ذات الوقت يبدو أن القائم على عملية طوفان الأقصى لم يدرك مغزى التحولات في البنى الثقافية والاجتماعية للمجتمع الإسرائيلي في العشرين عاماً الماضية على الأقل.
(4) الأرباح والخسائر “لطوفان الأقصى”
أحدث يوم السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023 على الجانب الإسرائيلي زلزالاً هائلاً في نظرية الردع أو هالة قدرة الردع الإسرائيلية في المنطقة بمجملها، والتفوق العسكري المبني على التفاخر بالقدرات التقنية أو الصناعة العسكرية فائقة التقنية، وهزت مكانة الجيش الإسرائيلي “البقرة المقدسة” في المجتمع الإسرائيلي الذي بدا أنه غير قادر على حماية حدود الدولة أو مواطنيها، وكشفت قصور القدرات الاستخبارية لأجهزة الأمن الإسرائيلية. ناهيك عن عجز تقديرات الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها على التنبؤ أو التقدير لحجم التهديدات أو سلوك الأطراف “المعادية” حيث أشارت تقارير تقدير الموقف أنّ حركة حماس مردوعه وغير راغبة بالمواجهة وتريد الحفاظ على حكمها في قطاع غزة.
في المقابل شكل “طوفان الأقصى” في ذلك اليوم (أي العملية العسكرية) نجاحاً مبهراً للفلسطينيين لم يعتادوا عليه سابقاً بهذا الحجم والقدرة وأعداد المقاتلين المشاركين في العملية والأدوات والقدرات والوسائل. وإعادة ثقة الفلسطينيين بأنفسهم وبقدرتهم على مواجهة قوات الاحتلال و”التفوق” على قدراته العسكرية والتقنية، وأعادت هذه العملية المسألة الفلسطينية على جدول أعمال المجتمع الدولي التي غابت لسنوات أو بالأحرى لم تعد ضرورة من أجل تحقيق الأمن والسلم في منطقة الشرق الأوسط.
في المقابل اعتبرت الحكومة الإسرائيلية أنّ الانتقام أو الحرب فرصة للعودة إلى الأحلام التوراتية والأفكار الأيديولوجية التي يتبناها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لاستعادة الأطماع الاستعمارية بإقامة مملكة إسرائيل من البحر إلى النهر وفقاً لما سجله نتنياهو في كتابه “مكان بين الأمم” ومستخدماً في ذلك القوة الغاشمة التي تمتلكها إسرائيل والدعم الدولي الذي تلقته بداية الحرب، ومعتمداً على نظرية “الجدار الحديدي” القاضية باستخدام القوة المفرطة لاستسلام الفلسطينيين أو تهجيرهم من أراضيهم.
عملت الحكومة الإسرائيلية بسياسة ممنهجة للتدمير الكلي والشامل في قطاع غزة لمنع إمكانية الحياة فيه ولاستهداف المواطنين الفلسطينيين بشكل واسع، وتدمير البنية التحتية بما فيها نظام الرعاية الصحية بجميع مكوناته وكذلك التعليم وأنظمة البيئة القائمة في القطاع. وهي خسائر استراتيجية لجميع الفلسطينيين تؤثر وستأثر في طبيعة حياتهم وفي البنى الثقافية والاجتماعية لعقود قادمة.
في المقابل، نجح الفلسطينيون باستعادة وضع قضيتهم على جدول أعمال المجتمع الدولي، وزيادة التضامن الدولي على مستوى الشعوب بشكل عام، ومنح دولة فلسطين امتيازات استثنائية في الأمم المتحدة تشبه إلى حدٍ بعيد امتيازات الدول الأعضاء، وتغيير في مواقف بعض الدول كان أوضحها الاعتراف بالدولة الفلسطينية من دول أوروبية على سبيل المثال، وظهور بوادر لمقاطعة إسرائيل من بعض الدول الأوروبية في قضايا محددة، وتفعيل ملاحقة إسرائيل أمام المحاكم الدولية؛ كمحكمة العدل الدولية في القضية المرفوعة من دولة جنوب افريقيا بشأن خرقها لاتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، أو المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت بطاقات جلب لرئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير جيشه كمجرمي حرب. ناهيك عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صادق على قرار محكمة العدل الاستشاري المتعلق بعدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي واستمرار منع الشعب الفلسطيني من ممارسة حق تقرير المصير باعتباره أحد أهم مقاصد ميثاق هيئة الأمم المتحدة وغايات إنشائها. هذه النجاحات على مستوى المؤسسات الدولية بشكل خاص لم تكن نتيجة “طوفان الأقصى العملية العسكرية” بقدر ما هو تضامن مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة إثر الكارثة التي حلت به ونتيجة جهدٍ سياسي مستمر لسنوات متعددة.
(5) المطلوب لتقليص الأعباء وتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني واستعادة توازنه
مما لا شك فيه أنّ الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، قد تعرض لكارثة إنسانية عبر أبشع تطهير عرقي على مدار أكثر من خمسة عشر شهراً على يد الاحتلال الإسرائيلي الذي مارس التدمير المنهجي لمكونات الحياة في قطاع غزة وكرامة المواطنين.
هذه المرحلة المفصلية من عمر الشعب الفلسطيني تحتاج إلى مقاربة وطنية بغية الأنقاض الوطني؛ وذلك من خلال استعادة الوحدة الفلسطينية بما يقوي المناعة الوطنية من جهة، ويحقق الاندماج الوطني والمجتمعي من جهة ثانية، وتخفف تبعات هذه الحرب وآثارها من جهة ثالثة، وتضمن القدرة على التعامل مع المجتمع الدولي للبدء بإعادة الحياة في قطاع غزة وعلى التحرك الدولي دون ملاحقة إسرائيلية ومؤيديها، وعلى تحويل التضامن الدولي الذي حظي بها الشعب الفلسطيني؛ بسبب ما اقترفه الاحتلال الإسرائيلي من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلى خلق أدوات ضغط منظم على الحكومات الغربية باتجاه عزلة إسرائيل من جهة رابعة.
إنّ تحقيق ذلك يتطلب من الأطراف الفلسطينية الفاعلة أنْ تتخذ قرارات شجاعة نابعة من إدراكها للمصلحة العامة للمواطنين الفلسطينيين ولحفظ كرامة المواطنين وضمان الشراكة الوطنية بما يتيح الفرصة لتقليص “الخسائر”، وللحفاظ على ما تبقى من مقدرات الشعب الفلسطيني، وتصليب الجبهة الداخلية. هذا الأمر يعني أنّه على كل فصيل فلسطيني؛ بخاصة حركتي فتح وحماس، اتخاذ وتبني قرارات مسؤولة بمبادرة منها لإعلاء المصلحة العامة للشعب الفلسطيني بغض النظر عن المصالح الفئوية. وذلك من خلال إعمال المقترحات التالية:-
– تبني خطاب الضحية؛ ضحية جريمة الإبادة الجماعية التي اقترفها الحكومة الإسرائيلية، من قبل جميع الفصائل والفلسطينيين في أرجاء المعمورة وتكريسه، والابتعاد عن خطاب الانتصارات بحجة الإبقاء على معنويات الشعب الفلسطيني، فالأهم هو كسب تضامن المجتمع الدولي وإدانة حكومة الاحتلال ومعاقبتها على هذه الجريمة.
– تشكيل حركة حماس لحزب سياسي جديد لتجاوز أزمة وسمها بالإرهاب من قبل دول وازنة في المجتمع الدولي مثل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وملاحقتها في هذه الدول، ومع وجود ضمانات للتعامل الإيجابي مع هذا التحول من قبلها
– الإعلان عن عدم حصر حركة حماس المقاومة بالعمل المسلح في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتبين الأساليب الأخرى في المقاومة بما ينسجم مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
– تسليم الحكم في قطاع غزة لحكومة إنقاذ وطني يتم الاتفاق عليها بحوار وطني مع وجود ضمانات عدم استخدام السلاح في الخلافات الداخلية أو تعطيل عمل الحكومة أو خرق سيادة القانون.
– الاتفاق على دخول منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات الحكم السياسية بعد إجراء الانتخابات العامة، على أن يتم الاتفاق على موعد إجراء الانتخابات في مدة أقصاها عامان من وقف الحرب.
– تقديم حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية ضمانات لحركة حماس لإجراء الانتخابات العامة (التشريعية والرئاسية) في موعدها المتفق عليه، والسعي منذ لحظة توقيع اتفاق وقف إطلاق النار للتغلب على المعيقات والتحديات التي تواجه إجراء الانتخابات العامة بالتشاور والاتفاق الوطني.
القدس المقدسية