توصيات العقلاء: حين تتقاطع الأخلاق مع العمران البشري:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

ليس القول بأن «الكرامة» شرطٌ للولاية قولاً طبقيّاً، ولا دعوةً لاحتكار السلطة بيد فئةٍ دون أخرى، بل هو – في عمقه الفلسفي والاجتماعي – تحذيرٌ من أن تُسند مفاصل الدولة إلى نفوسٍ هشّة، وطبائع محطّمة، وضمائر خربة لا تردعها قيمٌ ولا تُهذّبها مسؤولية. إنّ ما قصده الحكماء – من ابن خلدون إلى فلاسفة السياسة المعاصرين – أنّ الأخلاق هي الشرط الأول للسلطة، وأنّ العلم إذا أُعطي لقلوبٍ جائعةٍ للهيمنة، لا للفضيلة، تحوّل إلى سلاحٍ باطش لا يميّز بين خدمة الوطن وإذلال أهله.
فالمجتمعات، في لحظة تأسيسها أو انهيارها، تُبتلى غالباً لا بجهل السفهاء، بل بسطوتهم. والسفه هنا ليس فقراً ولا بساطة، بل خواءٌ داخليٌّ لا يُمسك بقيمة، ولا يحفظ عهداً، ولا يعرف معنى الشرف العام. ومع ذلك، حين يتعلّم هؤلاء، ويقفزون إلى المناصب بطرق ملتوية أو عبر منظوماتٍ مهلهلة، يصبح علمهم أداةً للانتقام من النزهاء، وإقصاء الفضلاء، وتحويل الإدارة إلى غابةٍ من المصالح، لا إلى دولةٍ من المؤسسات.

إنّ كليات الطب والحقوق والشرطة والأمن ليست مجرد مسارات مهنية، بل بوّاباتٌ إلى السلطة على أجساد الناس وحقوقهم وعدالتهم وأمنهم. ومن يدخل هذه البوابات يجب أن يكون ممن رُبيّ على الحقّ قبل العلم، وعلى النزاهة قبل المهارة، وعلى المسؤولية قبل الوجاهة. فالقانون في يد الشريف يرمم الدولة، وفي يد السفيه يكسّر عمودها الفقري. والمشرط في يد الطبيب النزيه شفاء، وفي يد من لا ضمير له تجارة موت. والأمن في يد رجلٍ مستقيم طمأنينةٌ للمجتمع، وفي يد عديم الأخلاق رعبٌ يتخفّى بلباس الدولة.

لقد أدرك عالم الاجتماع العربي ابن خلدون، ببصيرة المؤرخ الفيلسوف، أنّ العمران البشري ينهار لا عندما تقلّ الموارد فقط، بل عندما يُولّى الصغار – صغار النفس لا صغار السن – على رقاب الناس. فهؤلاء، حين يصعدون، لا يبنون، لأن البناء يحتاج إلى قلبٍ واسع، ونَفَسٍ طويل، وضميرٍ يقظ؛ بل يسعون إلى إخضاع الفضلاء حتى لا يظهر أمامهم معيارٌ يعرّي فسادهم.
وهكذا، ليست توصية العقلاء دعوةً لوراثة السلطة، بل دعوةً لوَراثة الأخلاق. أن تُختبر النفوس قبل الشهادات، وأن يُوزن المرء بما يقدّمه للوطن لا بما يطلبه منه. إنّ الدول التي يحكمها أهل المروءة تعيش بسلامٍ طويل، أما التي تُسَلَّم لمن لا خُلُق لهم فتصير خرائطها هشّة، وجبهتها مشقّقة بنيران الفساد.
فالأخلاق ليست زينةً للولاية، بل شرط وجودها.
ومن وُلّي بلا فضيلةٍ، خرب ما وُلّي عليه، ولو كان يحمل ألف شهادة.