توفير الماء والطعام ليس خيارا سياسيا، بل هو جوهر العقد الاجتماعي

عصام الياسري

في بلد يعرف تاريخيا بأنه “أرض الرافدين”، بات الحديث عن نقص المياه واتساع رقعة الجفاف، حديث الساعة وغير منفصل عن أزمة الكهرباء في فصل الصيف ومن أكثر القضايا إلحاحا وخطورة على الأمن القومي والمعيشي والبيئي. ففيما تستمر تركيا وإيران بسياسات مائية أحادية تهدد حياة الملايين من العراقيين، يبرز غياب التحرك الحكومي الفاعل كواحد من أبرز أسباب تفاقم الأزمة.

في العرف القانوني والمجتمعي، يعتبر توفير الماء والغذاء من أهم الواجبات الأساسية التي تقع على عاتق أي حكومة. فالماء ليس موردا طبيعيا فحسب، بل هو حق إنساني أساسي، منصوص عليه في الاتفاقيات الدولية كالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومؤكد عليه في الاتفاقيات البيئية والمائية الدولية، ومنها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن استخدام المجاري المائية الدولية.

إلا أن هذا الواجب في العراق بات محل تساؤل، لا سيما مع ما تشهده البلاد من انخفاض حاد في مناسيب نهري دجلة والفرات، وتصاعد معدلات التصحر، وتراجع المساحات الزراعية، وتزايد حالات النزوح الداخلي المرتبطة بشح المياه، خاصة في الجنوب

ما من شك في أن تركيا تتحمل مسؤولية كبيرة في تفاقم أزمة المياه في العراق، بسبب مشاريعها الضخمة، وعلى رأسها “سد إليسو”، الذي تم تشغيله دون تنسيق مع بغداد، رغم ما يترتب عليه من تقليص حاد في تدفق نهر دجلة ومع أن تركيا لم تصادق على اتفاقية 1997، إلا أنها تبقى ملزمة بمبادئ القانون العرفي الدولي، الذي ينص على الإنصاف، وعدم الإضرار، والتشاور المسبق في مشاريع الأنهار المشتركة.

أما إيران، فقد ذهبت إلى خطوات أكثر حدة، من خلال قطع وتغيير مجاري الأنهار والروافد التي تصب في الأراضي العراقية، دون أي التزام بالقواعد الأخلاقية أو القانونية، مما زاد من حدة الجفاف في محافظات ديالى، واسط، وميسان…

إن سياسات الأمر الواقع وتجاهل القانون الدولي والضغوط المتعددة الأشكال التي تمارسها تركيا وإيران: يتطلب من الحكومة العراقية ومؤسساتتها صاحبة الشأن، القيام وبكل الوسائل بما في ذلك استعمال ورقة العقود التجارية والاقتصادية كأداة ضغط للوصول إلى آلية دائمة لمراقبة وتقييم التصريفات المائية من خلال تحديث الاتفاقيات الثنائية مع تركيا وإيران، والسعي لإبرام اتفاقيات ملزمة جديدة تضمن الحصص المائية العادلة للعراق، على أساس مبادئ الإنصاف، وعدم الإضرار، والتقاسم العادل.

داخليا، يجب أن تعمل الحكومة على إصلاح الإدارة المائية، وتطوير البنى التحتية للري والتخزين، وتحفيز الزراعة الذكية المستجيبة للواقع المائي الجديد، والتقليل من الهدر في الاستخدامات الزراعية والصناعية، لتخفيف الاعتماد على المصادر الخارجية.

ومن المنظور القانوني، تلزم الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والمجتمعية ـ الدول الأطراف ـ باتخاذ التدابير اللازمة لضمان حصول الأفراد “المواطنين” على الغذاء الكافي والماء النظيف والآمن ويعد الإخلال بهذه الالتزامات انتهاكا صريحا للحقوق الأساسية المنصوص عليها، وقد يترتب عليه مسؤولية قانونية تجاه الأفراد الذين تسببوا في نشوء الأضرار البشرية والبيئية.

أما من المنظور الأخلاقي والمجتمعي، فإن توفير الطعام والماء لا يعد تفضلا أو خيارا سياسيا، بل هو واجب أصيل يعبر عن جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. فمستوى وفاء الحكومة بهذه المسؤولية يعود معيار مركزي لقياس مدى التزامها بواجباتها الإنسانية، ومدى احترامها للكرامة البشرية، خصوصا- في ظل الأزمات أو الظروف الاستثنائية…

إن أزمة المياه في العراق ليست قضية بيئية فقط، بل قضية وجودية وسيادية. فاستمرار الصمت الحكومي والركون إلى الخطابات الدبلوماسية دون فعل، سيفتح الباب أمام انهيار بيئي ومعيشي واسع، ويفاقم من الهجرة والنزاعات الداخلية مستقبل. وعليه، فإن ضمان حق المواطنين في الغذاء والماء يمثل ليس فقط التزاما قانونيا على الدولة، وإنما مسؤولية أخلاقية عميقة تجسد جوهر وجودها ووظيفتها الاجتماعية.

الوقت لم يعد يسمح بالتأجيل أو المجاملة واستمرار الصمت أو التحرك المحدود أمام ما يشهده العراق من أكبر أزمة مائية في تاريخه الحديث. بل يعد خرقا خطيرا للواجب السيادي والإنساني الذي تتحمله الدولة، ويهدد مستقبل الاستقرار السكاني والغذائي والاقتصادي للبلاد.

في كل دساتير العالم، يعد الماء والغذاء من أقدس الحقوق التي لا يجوز المساس بها. لكن الواقع العراقي يقول العكس تماما. ملايين العراقيين اليوم مهددون بالعطش، والنزوح، وانهيار سبل العيش، في وقت يفترض أن تكون الحكومة هي الجدار الأول لحماية هذا الحق، لا أول المتقاعسين عنه أمام تلاعب تركيا وإيران بحقوق العراق الطبيعية، وانتهاكهما الفاضح للقوانين الدولية.

إن التقصير الرسمي لا يكمن فقط في غياب الضغط، بل في غياب الرؤية أيضا. لكن، حتى لا يتحول العراق إلى بلد صحراوي بالكامل، لا بد من تحرك وطني، شعبي وإعلامي ومؤسساتي، سريع وشجاع، يقوم على: مطالبة الحكومة العراقية بالتحرك الفوري والحاسم، وإلا فإن الجفاف لن يكون مجرد موسم عابر، بل عنوانا دائما لمستقبل البلاد.