جاك الدّور جاك الدّور يا قيس يا دكتاتور

بحري العرفاوي

السياسي –

1- عَوْدٌ على بَدء
حين وقف الأستاذ راشد الغنوشي، رئيس البرلمان الشرعي، قبالة دبابة تسدّ باب البرلمان ليلة 25 تموز/ يوليو 2021، ومعه عدد من نواب حركة النهضة وائتلاف الكرامة ونائبته الأولى سميرة الشواشي، كان أغلب خصوم حركة النهضة يباركون جهرا أو صمتا ما حدث؛ لكون قيس سعيد استبعد أهم طرف سياسي وسيحتاج منهم دعما لمزيد التصفية عن طريق جهاز القضاء ومن خلال تلفيق التهم وتشويه السمعة وتضليل الرأي العام.
اليوم كل تلك القوى ومعها اتحاد الشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان تعود وقد أذلها قيس سعيد إلى نفس موقف الأستاذ راشد الغنوشي، ولكنهم يقفون على أرضية أقل اشتعالا ويواجهون “دكتاتورا” أضعف سلطانا وأكثر خصوما.
“الشبكة التونسية للحقوق والحريات” التي تجمع عدة أحزاب ومنظمات وجمعيات دعت يوم 13 أيلول/ سبتمبر إلى مسيرة كانت ذات حجم محترم ثم دعت في 22 أيلول/ سبتمبر إلى مسيرة ثانية رُفعت فيها عدة شعارات ضد قيس سعيد تحديدا: “جاك الدّور جاك الدّور يا قيس يا دكتاتور” و”وحدة وحدة وطنية ضد الهجمة الشعبوية”، وشعارات عديدة تطالب باحترام الحريات وتدعو إلى رحيل قيس سعيد. وقد لاحظ المراقبون حضورا مهما للشباب من الجنسين، وكانوا هم المتصدرين للمشهد.

2- قيس سعيد الهروب إلى الأمام

بعد ثلاثة أعوام من استحواذه على السلطة المطلقة وتوليه إدارة البلاد بالمراسيم ثم بدستور سنّه بنفسه ثم بحكومات يختار هو وزراءها، عجز قيس سعيد عن تحقيق ما وعد به الناس من استرجاع للأموال المنهوبة ومن توفير للثروة وتحسين لمستوى العيش ولظروف العائلات التونسية، عجز عن تحقيق ظروف ملائمة للاستقرار وللأمل، فلم تتوقف هجرة الكفاءات خاصة من الشباب وفي مختلف الاختصاصات التي تحتاجها الدولة.
وبدل أن يعترف بعجزه وفشله، وبدل أن يدعو إلى حوار وطني يُمهّدُ له بتنقية الأجواء بإطلاق سراح المساجين وإلغاء المرسوم 54 السالب للحريات، وبدل الكف عن خطاب التخوين وقاموس السباب والشتيمة والتحريض على “التطهير” بما تحيل إليه الكلمة من عنف وكراهية، فإنه ظل يكابر ويزيد في التنكيل بمخالفيه وخاصة من مناضلي حركة النهضة التي لم يسلم منها حتى عقلها الوازن وقلبها الكبير، العجمي الوريمي، كما لم يسلم شيوخٌ أنهكتهم السجون وخرّب أجسادهم التعذيب والمرض والفقر، فقد ألقى بالعشرات منهم بسبب مطالبتهم بتنفيذ ما تعهدت به الدولة تجاه ضحايا الأنظمة السابقة من “جبر” لبعض ضرر بليغ.
قيس سعيد وضع كل منافسيه على الرئاسة في السجن أو في الإقامة الجبرية، ولم يُبق إلا على منافس واحد هو أمين عام حركة الشعب التي ناصرت 25 تموز/ يوليو في البداية ثم اتخذت منه مسافة نقدية لأسباب يقولون متعلقة بانحرافات الرئيس عن المبادئ الأولى، ويقول معارضو حركة الشعب إن الأسباب كامنة في عدم تقاسم قيس سعيد للسلطة معهم.
ولمزيد محاصرة لمنافسيه يسعى قيس سعيد إلى تغيير القانون الانتخابي قبل موعد الانتخابات الرئاسية بأسبوعين، يريد تجريد المحكمة الإدارية من صلاحيتها ومنحها لمحكمة الاستئناف لتتعهد هي بالنظر في قضايا النزاع الانتخابي. المحكمة الإدارية هي التي حكمت ببطلان قرارات هيئة الانتخابات التي حرمت ثلاثة مترشحين من حقهم في المشاركة، وهم عبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي وعماد الدايمي، ويرى خبراء في القانون أن المحكمة الإدارية كأعلى سلطة قضائية قد تحكم ببطلان المسار الانتخابي كله، وهو ما سيُدخل البلاد في نزاع قانوني قد يلجأ معه سعيد إلى اعتماد أجهزة الدولة لفرض فوزه كأمر واقع.
هذه مخاوف حقيقية جعلت أغلب الأحزاب والمنظمات تُصدر بيانات إدانة وتحذير، وتطالب نواب البرلمان بعدم الانسياق وراء رغبة قيس سعيد في تنقيح القانون الانتخابي بما يخدم حظوظه في دورة رئاسية ثانية تمتد إلى 2029.
3- المبادئ والحسابات
في السياسة لا وجود للنوايا الحسنة، وإنما ثمة دائما حسابات ومصالح وتحالفات ومحاولات دائمة للاستفادة من التناقضات والتقاطعات داخليا وخارجيا.

كان يمكن أن يكون عدد المشاركين في المسيرتين الاحتجاجيتين أضعافا مضاعفة لو كان قادة النهضة خارج السجن، أو لو دعا من هم خارجه جماهير الحركة إلى المشاركة القوية في الاحتجاجات مع إقناع بجدوى الخروج، فجمهور واسع من حركة النهضة فقد الثقة فيمن يعتبرهم مسؤولين عن محنة الديمقراطية، ويتساءل عن سبب غيابهم عن مسيرات جبهة الخلاص حين كانت ترابط في الشارع ضد الانقلاب.
إن الحزب الأقوى والأقدر على التعبئة وعلى تسيير المظاهرات الشعبية وملء الشوارع الكبرى هو حزب حركة النهضة، ولكن هذا الحزب تعرض إلى “العضّ” مرات كلما مدّ يدا للتوافق، بل إن أغلب خصومه الأيديولوجيين يريدون أن تنجح السلطة في “إبادته” وإنهم يتفاجأون كلما انبعث من رماده فيرفعون عقيرتهم يحذرون من “الأخونة” و”الأسلمة”.
ثمة وجهة نظر يقول أصحابها إن عودة عدد من أنصار قيس سعيد إلى شارع المعارضة أمر مهم وجب البناء عليه ومعه؛ من أجل تكوين موقف جامع ينتهي إلى استعادة الديمقراطية ويضع حدات لعملية تفكيك الدولة وقتل السياسة وتغيير هيئة الدولة.
وجهة نظر ثانية يرى أصحابُها أن بعض القوى والشخصيات التي تسمي نفسها حداثية ومدنية تريد استعمال بعض جمهور النهضة لتوفير “شارع” يُقنع قوى خارجية بضرورة المساعدة في إسقاط سعيد، ويريدون تسلم السلطة وتنفيذ مشروعهم هم تحديدا تشاركهم فيه قوى خارجية، فرنسا تحديدا، أو لعلهم يُرسلون برسالة لقيس سعيد يقنعونه بضرورة محاورتهم وتمكينهم من بعض الامتيازات بعد فوزه في انتخاباتٍ لن يطعنوا فيها إذا تسلموا وزارة الثقافة وسُمح لجمعياتهم بتلقي الدعم الخارجي لقد نجحوا في ذلك مع بن علي، إن الحرية التي يطالبون بها ليست للإسلاميين، ولم نقرأ لهم نصا في المراجعات الفكرية وفي الاعتراف بأخطاء وخطايا وحتى مواقف وممارسات ترقى إلى مستوى الجرائم.

4- الإسلاميون وحظوظهم من الديمقراطية

المتوجسون من أي تنسيق مع دعاة التظاهر في المناسبتين، يعتبرون أن الهجمة التي شنها سياسيون وإعلاميون ومثقفون ونقابيون على مسار التدرب الديمقراطي طيلة العشرية الحمراء، لم تكن دفاعا عن حرية ولا عن إبداع ولا عن مدنية ولا عن فقراء، إنما كانت تحديدا استهدافا لإسلاميين فازوا في الانتخابات وقبلوا بتحمل أمانة رآهم الشعب أهلا لها، ولذلك ليس من السهل أن يطمئنوا إلى هؤلاء دون تفاهمات مكتوبة وتعهدات مدونة.
يقول المتوجسون أولئك إن هؤلاء أنفسهم هم من يبكون اليوم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وليس ثمة ما يدل على أنهم راجعوا أنفسهم أو اعترفوا بأخطائهم أو شهدوا بأن الإسلاميين ديمقراطيون ووطنيون وتوافقيون ومظلومون زمن بورقيبة وبن علي وقيس سعيد، إنهم في أحسن الأحوال “يَعِدون” بإطلاق سراح الإسلاميين الذين وضعهم قيس سعيد في السجن، وسيشترطون عليهم مقابل ذلك ألا يشاركوا في أي انتخابات بكل حجمهم حتى لا يفوزوا فيها بأغلبية، إنهم يريدون من الإسلاميين بعد أن اعتقدوا بأن قيس سعيد أضعفهم على كل المستويات، أن يكونوا طرفا في إسقاط قيس سعيد ولكن لن يقبلوا بهم شريكا حقيقيا في الديمقراطية؛ في زمنٍ يُكشّر فيه الغرب على أنيابه بوجه الحركات الإسلامية التي يراها بيئة منتجة لشباب المقاومة ومنتجة لخطاب هو وقود كل الساحات الصامدة اليوم والمنتفضة على الظلم وعلى الرأسمالية المتوحشة وعلى الصهيونية المجرمة.

شاهد أيضاً