السياسي – بعد نحو خمسة عقود على اختفاء رجل الدين اللبناني موسى الصدر في ليبيا عام 1978، عاد اسمه ليتصدر النقاش مجدداً، مع نشر شبكة «بي بي سي» البريطانية تحقيقاً جديداً كشف عن خيط غير مسبوق قد يفتح نافذة على واحد من أكثر الألغاز السياسية غموضاً في تاريخ لبنان المعاصر.
ويروي التحقيق كيف تمكن الصحافي اللبناني – السويدي قاسم حمادة عام 2011، بُعيد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، من دخول مشرحة سرية في طرابلس الليبية، حيث صادف وجود 17 جثة يُعتقد أنها تعود لرجال أُعدموا قبل نحو ثلاثة عقود. ولفتت انتباهه من بين تلك الجثث، جثة طويلة القامة ذات ملامح قريبة من ملامح الإمام الصدر، الذي عُرف بطوله.
ويقول حمادة إن «ملامح الوجه ولون البشرة والشعر أعادت إلى ذهنه صورة الصدر»، مضيفاً: «الجمجمة بدت وكأنها تعرضت لضربة قوية أو رصاصة فوق العين اليسرى، ما عزز الشكوك بأنها ضحية إعدام».
-الذكاء الاصطناعي يدخل على الخط
وعرضت شبكة «بي بي سي» الصورة على فريق في جامعة «برادفورد» البريطانية، الذي يعمل منذ عقدين على تطوير خوارزمية فريدة للتعرف العميق على الوجه. وبعد مقارنة الصورة مع أربع صور لموسى الصدر في مراحل مختلفة من حياته، أعطت النتيجة تقييماً بحدود 60 من 100، وهو ما وصفه الخبراء بأنه «احتمال مرتفع أن تكون الجثة تعود إليه».
ولمزيد من التدقيق، أجريت المقارنة مع صور ستة من أفراد عائلة الصدر، ومع مائة صورة لرجال شرق أوسطيين عشوائيين. النتيجة كانت أوضح في حالتي الصدر وعائلته، ما عزّز الشبه، وفتح الباب أمام هذه الفرضية بجدية.
وكشف التحقيق أيضاً أن حمادة لم يكتف بتوثيق الصورة، بل أخذ عينات من شعر الجثة عام 2011، وسلمها إلى مسؤولين لبنانيين بغرض إخضاعها لفحص الحمض النووي. لكنّ المسار توقّف عند هذا الحد، إذ لم يصل أي رد لاحق بشأن التحليل، ما يثير تساؤلات إضافية حول سبب تجميد هذا الخيط الحاسم.
-رحلة محفوفة بالمخاطر
وفي متابعة القضية، سافر فريق «بي بي سي» عام 2023 برفقة حمادة مجدداً إلى ليبيا للبحث عن أدلة إضافية. لكن مهمتهم انتهت باعتقالهم من قبل جهاز المخابرات الليبية، حيث احتُجزوا ستة أيام بتهمة التجسس، قبل أن يُفرج عنهم تحت ضغط من المؤسسة الإعلامية البريطانية والحكومة في لندن.
واختفى الإمام موسى الصدر في 31 أغسطس (آب) 1978 خلال زيارة رسمية إلى ليبيا، حيث كان يفترض أن يلتقي العقيد معمر القذافي. ومنذ ذلك التاريخ ظل مصيره مجهولاً، فيما تؤكد الرواية اللبنانية أنه اختُطف في ليبيا مع رفيقيه الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين.
وتحولت القضية إلى ملف قضائي وسياسي طويل الأمد. ففي لبنان، أصدر القضاء مذكرات توقيف غيابية بحق القذافي وعدد من أركان نظامه، فيما ظل النظام الليبي على مدى عقود ينكر مسؤوليته. ومع سقوط القذافي عام 2011، تجددت الآمال بكشف الحقيقة، لكن تضارب الروايات بين السلطات الليبية الجديدة واللبنانية أبقى الملف معلقاً.
الصدر الذي أسس «حركة المحرومين»، ومن ثم «حركة أمل» كان شخصية جامعة في الوسط الشيعي واللبناني، فدعا إلى «تعزيز الدولة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي»، وإلى التعايش بين الطوائف. ولذلك عُد اختفاؤه حدثاً مفصلياً أعاد رسم المشهد الشيعي والسياسي في لبنان.