جحيم غزة…ماذا بعد التهجير…؟!

بن معمر الحاج عيسى

 

تدخل غزة مرحلة جديدة من الصراع، حيث تتكالب عليها مشاريع التهجير والاقتلاع في مشهد يذكّر بنكبة الأمس، لكن هذه المرة بوجه أكثر عنفًا وسرعة، إذ أطلقت إسرائيل عملية عسكرية موسعة تشارك فيها أربع فرق كاملة، ممهّدة الطريق لمخطط تهجير جماعي يهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وإلقائهم إمّا في رمال سيناء أو على أمواج البحر نحو مصر، فيما تتعالى أصوات التهديد من واشنطن، على لسان دونالد ترامب، بفتح أبواب الجحيم على القطاع وإعطاء مهلة قصيرة لا تتجاوز أيامًا. ما يجري ليس مجرد تصعيد عسكري، بل مشروع سياسي وأمني متكامل يسعى إلى تغيير هوية غزة ونهج الصراع العربي الإسرائيلي برمّته، فالخرائط التي نشرها الجيش الإسرائيلي لا تحمل فقط مسارات عمليات، بل تحمل في طياتها مشروع ترانسفير جديد يعيد إنتاج مأساة اللاجئين الفلسطينيين بنسخة أكثر قسوة. إن الحديث عن تهجير نحو سيناء ليس مجرد سيناريو عابر، بل يندرج ضمن تصورات إسرائيلية قديمة طالما طُرحت في غرف مغلقة، واليوم تجد طريقها إلى العلن في ظل انشغال العالم بأزماته وصمته المريب أمام الإبادة البطيئة التي يتعرض لها سكان القطاع. ويأتي خيار البحر كمخرج ثانٍ للضغط على مصر وإجبارها على القبول بخطة إعادة توطين قسرية، في وقت تدرك فيه القاهرة أن هذه المؤامرة تستهدفها هي الأخرى بقدر ما تستهدف غزة، لأنها ستضعها أمام أعباء ديموغرافية وأمنية لا حدود لها، وتحوّل أرض سيناء إلى مخيم لجوء مفتوح ومفخخ بالتوترات. في المقابل، يطلّ ترامب من بعيد متقمصًا دور الحاكم الذي يرسم حدود اللعبة، ملوّحًا بلغة النار والدمار، ومؤكدًا أن المهلة محدودة وأن ما ينتظر غزة هو أبشع إنذار في تاريخها الحديث، في خطوة تهدف إلى دعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا وإعطائها غطاءً أمريكيًا لإبادة مفتوحة قد تستمر ما لم يتدخل المجتمع الدولي بجدية. لكن السؤال المطروح: لماذا الآن؟ ولماذا بهذا الشكل؟ الجواب يكمن في التقاء عدة مصالح؛ إسرائيل تسعى إلى حسم ملف غزة نهائيًا بعد أن عجزت عن إخضاعها بالمواجهات السابقة، بينما الولايات المتحدة تريد استثمار اللحظة لتكريس رؤيتها للمنطقة كفضاء خاضع لإرادتها، فيما تجد بعض الأطراف الإقليمية نفسها أمام امتحان صعب بين خيار المواجهة وخيار الصمت الذي قد يرقى إلى التواطؤ. إن أخطر ما في هذا المشهد ليس فقط الهجوم العسكري أو الخرائط المعلنة، بل محاولة شرعنة التهجير بوصفه “حلًا إنسانيًا” لتخفيف معاناة المدنيين، وهي خدعة إعلامية وسياسية تهدف إلى قلب الحقائق، فكيف يمكن أن يكون اقتلاع السكان من أرضهم إنقاذًا لهم؟ وكيف يمكن لمشروع إلغاء غزة كجغرافيا وهوية أن يُسوّق بصفته مخرجًا من الأزمة؟ إنها لعبة اللغة التي تحاول إسرائيل والغرب فرضها على الرأي العام، بينما الحقيقة أن غزة تقف أمام مشروع تطهير عرقي جديد لا يختلف عن جرائم القرن الماضي إلا في أدواته. داخليًا، يعيش الفلسطينيون في القطاع حالة من الصدمة بين قصف متواصل، وانقطاع الخدمات الأساسية، وإعلانات عن مناطق إخلاء تتحول إلى أهداف عسكرية في لحظات، وفي ظل هذه الفوضى يصبح الخوف الأكبر هو أن يتكرر السيناريو اللبناني عام 1982 حين فُرض الخروج القسري على المقاومة وسكان المخيمات. لكن الفرق أن غزة ليست بيروت، وأن شعبها الذي وُلد في خيام الشتات يعرف جيدًا معنى التهجير ولن يقبل به مهما كانت الضغوط. سياسيًا، تواجه مصر تحديًا مصيريًا، فهي تدرك أن أي قبول ضمني بخطة التهجير سيعني إعادة رسم خريطتها الأمنية في سيناء وفتح باب لا يغلق من الفوضى، وفي الوقت ذاته تجد نفسها مضغوطة بين تحالفات إقليمية والتزامات دولية تجعل موقفها بالغ الحساسية. أما بقية العواصم العربية فتبدو مشلولة، مكتفية ببيانات تنديد لم تعد توقف صاروخًا أو تمنع جرافة. دوليًا، يتكشف عجز المنظمات الأممية عن فرض أي حماية حقيقية للفلسطينيين، فقرارات مجلس الأمن تُدفن تحت فيتو أمريكي، وتقارير حقوق الإنسان لا تجد من يصغي إليها في لحظة هيمنة السلاح والسياسة الواقعية. وفي ظل هذه المعادلة، يُترك سكان غزة وحدهم في مواجهة آلة عسكرية جهنمية، بينما تتعالى التحذيرات من كارثة إنسانية قد تتجاوز حدود المنطقة وتفتح أبواب عدم استقرار عالمي. من الناحية الإعلامية، يحاول الاحتلال تصوير عمليته على أنها ضرورة أمنية لضمان أمنه الداخلي، بينما الحقيقة أن الهدف أبعد وأخطر، وهو إعادة صياغة المشهد الديموغرافي والسياسي في فلسطين عبر فرض واقع جديد يجعل من فكرة الدولة الفلسطينية سرابًا. هذا هو لبّ المعركة: ليست غزة وحدها المستهدفة، بل القضية الفلسطينية كلها. وفي مواجهة هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى وعي جماهيري واسع، وهو ما يلمح إليه الفيديو حين يرفع شعار “الوعي نور”، فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض بل أيضًا على الرواية. وعي الشعوب وقدرتها على فضح المخططات ورفض التسويق الإعلامي المضلل يمكن أن يكون حاجزًا أمام تمرير مشروع التهجير. وفي النهاية، لا بد من القول إن غزة أمام مفترق خطير: إما أن تُفرض عليها نكبة جديدة بصيغة الترحيل الجماعي، أو أن تصمد في وجه واحدة من أعنف محاولات الإبادة السياسية والجغرافية في تاريخها. ما سيحسم المعركة ليس فقط قوة السلاح، بل أيضًا صلابة الإرادة الشعبية وحجم الضغوط الدولية التي قد تتحرك في اللحظة الأخيرة، لأن الكارثة إذا ما وقعت لن تقف عند حدود غزة، بل ستهزّ المنطقة بأكملها وتعيد ترتيب أولويات العالم من جديد. وهكذا، فإن “جحيم غزة” ليس مجرد عنوان لوصف اللحظة الراهنة، بل وصف دقيق لمعركة وجود تدور رحاها بين مشروع اقتلاع وتهجير يسعى إلى قتل روح شعب بأكمله، وبين صمود تاريخي قد يغيّر مجرى الصراع لعقود قادمة.