جدعون.. أسطورة توراتية في خدمة الإبادة

أمين الحاج

في ظل التصعيد المستمر والتهديدات المتواصلة بشن عملية عسكرية شاملة على قطاع غزة، يتردد في أوساط المؤسسة العسكرية الاسم الجديد لعملية توسيع العدوان على قطاع غزة، “مركبات جدعون”، قد يبدو الاسم، للوهلة الأولى، مجرد مصطلح عسكري آخر في سجل عمليات العدوان المتكررة على غزة، لكنه في حقيقة الأمر يحمل رمزية مكثفة، تربط بين النصوص التوراتية والعقيدة الأمنية الاستعمارية التي تتبناها تل أبيب منذ سبعة وسبعين عاماً.

في “سفر القضاة” التوراتي، يظهر “جدعون” كقائد من سبط “منسى”، أوكلت له مهمة “إلهية” لتحرير “بني إسرائيل” من أبناء عمومتهم “المديانيين”، وتبدأ القصة باثنين وثلاثين ألف مقاتل، يستثنى منهم الجبناء، ثم يجري اختبارهم بالشرب عند النهر، ولا ينجح منهم سوى ثلاثمائة، وهم من “يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب”، أي من شربوا من الماء وهم واقفين يقظين، وبهذا العدد القليل، وبخطة تعتمد على الخداع البصري، أي “المشاعل”، والضجيج، أي “الأبواق”، ينتصر “جدعون” على جيش يفوقه عدداً وعدة، تحت راية “الاختيار الإلهي” و”التفوق الأخلاقي”، وهذه القصة ليست مجرد “أسطورة دينية” محفوظة في الكتب، بل تحولت إلى بنية سردية جاهزة يعاد تفعيلها سياسياً وعسكرياً كلما دعت الحاجة إلى منح الحرب صفة “القداسة” و”الاستحقاق الإلهي”.

وفي تأمل لافت، تلتقي قصة جدعون مع قصة طالوت وجالوت في القرآن الكريم، في الحكايتين، توراة وقرآن، يقف النهر – نهر الأردن – كحد فاصل بين الكثرة والصفوة، بين الطاعة والتردد، بين من يثقون بالله ومن ينهزمون أمام الغريزة، جدعون وطالوت، كل بطريقته، امتحنا الجموع حتى بقى معهم قلة، المشهد نفسه تقريباً يتكرر في القرآن في سورة البقرة على لسان طالوت: “إن الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني، إلا من اغترف غرفة بيده”، غير أن تل ابيب اليوم تُحرف هذه الرمزية العميقة، فتستدعي “مركبات جدعون” لا لتقود معركة تحرير، بل في حملة ضد أطفال غزة ونسائها، وكم يبدو المشهد سخيفاً حين يُستخدم لتجميل قصف البيوت وقتل الأبرياء، إنها محاولة لتقديس العنف، وإلباس الاستعمار لباس الدين، واستدعاء “الإله” ليقف في صف الدبابة، وبالتالي فهي لا تستحضر فقط رمزية النخبة المنتصرة والمطهرة، بل توظف نصوصاً دينية لتبرير عنفها، محرفة جوهر الرسالة من مقاومة الظلم إلى ممارسة القتل باسم الإله أو القداسة.

 

لم يكن استخدام اسم جدعون في سياق عسكري إسرائيلي سابقة جديدة، فخلال نكبة، أطلقت “عصابات “الهاغاناه” الإرهابية “عملية جدعون” على محاولاتها الاستيلاء على منطقة بيسان وتهجير سكانها الفلسطينيين قسراً، وها هو الاسم يعود اليوم في سياق مختلف جغرافياً، لكنه متطابق من حيث الجوهر، طرد السكان الفلسطينيين، إبادة من تبقى منهم، وإعادة تشكيل الديمغرافيا بالقوة، وشرعنة ذلك بلغة النص الديني.

هذا الاستدعاء المتكرر للأساطير التوراتية في العمليات العسكرية ليس أمراً عرضياً، بل جزء من منظومة استعمارية معرفية تؤطر العنف بوصفه امتداداً لـ”رغبة إلهية”، وتضع الفلسطيني، دائماً، في موقع العدو “الكنعاني” أو “المدياني” الذي يجب استئصاله، فعندما تطلق تل أبيب على عملية عسكرية اسما توراتياً، فهي لا تختار فقط اسما ملفتاً، بل تدخل المعركة في حقل “القداسة”، لتصبح الحرب وإبادة الفلسطينيين “واجباً دينياً”، والمقاوم الفلسطيني “نجساً”، والمجتمع الدولي من حولنا، كمن يشارك في صلاة جماعية “تبارك” الذبح، وبهذه الطريقة، يتحول النص الديني إلى “رافعة أيديولوجية” تبرر القتل او التنكيل بالمدنيين، ونسف البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وإبقاء غزة في قلب العدوان، وعتمة الحصار، والمفارقة أن هذا التقديس لا يمارس في الكنس فقط، بل يترجم على أرض الواقع في غرف العمليات، ووثائق الاستهداف، والبيانات العسكرية، يحدث ذلك في الوقت الذي يجهد العرب لتقديم الدين على أنه مجموعة من الشعائر والطقوس التي لا حياة فيها، تمجد الحاكم وتحث العامة على طاعة أمره، حتى لو طغى وعصى.

لكن – في الحقيقة – فان الرواية لا تكتب من طرف واحد، ففي غزة، حيث لا يكاد “يهدأ” العدوان، لم يعد للغة الترهيب وقعها، فالذاكرة الفلسطينية الممتدة من بيسان حتى رفح، تعرف “جدعون” جيداً، لا بوصفه نبياً أو قائداً أو مخلصاً، بل كرمز جديد من رموز السردية الاستعمارية التي سقطت مراراً وتكراراً أمام صلابة المقاومة، وإرادة البقاء.

إذا كانت مركبات جدعون قد انتصرت، بحسب الرواية، بثلاثمئة مقاتل يقظ، فإن غزة اليوم لا تعتمد على المعجزة فقط، بل على شعب يقف بكامله، يقظاً في وجه مشروع التهجير والإبادة، ويعلم أن الهزيمة لا تقاس بعدد الشهداء، بل بمدى قدرة أصحاب الأرض التي تجعل من النزف بياناً، ومن الركام رسالة بقاء.

قد يُعجب قادة الاحتلال باستعارة الأسطورة، ويتخيلون أنفسهم كتبة جدد للتوراة، لكن غزة بأطفالها ونسائها، تكتب نصها المؤسس، رواية البقاء، وستُبتلع مركباتهم كما ابتلع البحر فرعون، ولن تجد لنفسها مقامًا في ذاكرة الشعوب ولا سجلات التاريخ